سأكون مجازفًا لو جزمت بنجاح الثورة الشعبية المصرية في تحقيق كل مطالبها، ذلك أن شوطًا كبيرًا مازال أمامها لإكمال ما بدأته، بيد أنه يكفيني ما أنجزته حتى اليوم، أعادت لي يقيني أن دولة الظلم لا تدوم وإن تحالفت مع الشيطان، وأن الشعوب لا تموت وإن دثروها بالطغيان. هناك دومًا ضوء آخر النفق ونهاية سعيدة لهذه المعادلة الحرجة، تحالف الظلم والطغيان خيار الجبناء وأما الموت، وهو حق، إلا أنه خيار الشجعان، الموت دفعا للظلم ودفاعًا عن الوطن، أليس في ديننا شيء عن نبل وشهادة المقتول دون ماله وعرضه وأرضه، ألم يقل شاعرنا: وللأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق، من هنا أتي الربط بين الحرية والدم، ليس حبًا للدماء، ولكن لأن حرية الإنسان والأوطان كالشرف الرفيع لا تسلم من الأذى حتى يراق على جوانبها الدم. لنعترف بداية أن شباب مصر قد قام بواجبه بإسقاط صنم الظلم وعبدة الدرهم والدينار، واقترف ما كان مستحيلًا ليس بقدح زناد التغيير في وطنه وحسب ولكن، وحسب الرئيس أوباما، في العالم أجمع. أسقط الشباب كل ما كان يحاك ويشاع عنهم، سقوطهم الديني وانحلالهم الأخلاقي، وأن لا خير فيهم وقد أحاطت بهم قنوات التهتك الإعلامي والفن الهابط، ومواقع النت السافرة ويوتيوب التعري الفاجرة تحت ظلال المخدرات والمحرمات. أسألكم كم قناة عربية ساقطة كم موقعًا الكترونيًا هابطًا، كم عدد من راهن على إشغال شبابنا العربي بكل مبتذل من فن ورياضة وتدين مسيس وثقافة مدجنة، ها هو الشباب كطائر الجِنان ينفلت من حصار من حاول خنقه وإماتة ضميره وتشويه دينه وتهميش ثقافته وإذابة أخلاقه، ها هو يفند دعاوى كل من شكك في حقيقة انتمائه وأحقية تحضره، كل من أراد دفنه حيا تحت رمال مبتذلاته. وهذا فعل يستحق التقدير والإكبار، وقبل كل شيء الاعتذار، لأنهم أنجزوا ما عجزت عنه نخب التنظيرات والأطروحات والأحزاب التي جعجعت طويلا ولم تنتج طحينا. أوهموهم بالفوضى والخراب إن رحلت النظم المتسلطة، هددوهم بالدمار وبالحروب الأهلية إن هم تحركوا قيد أنملة، لكنهم تحركوا وكم كان تماسكهم مبهرًا كنور مشكاة في ليلة معتمة، كم كان بديعًا منظر صلاة مسلميهم بميدان التحرير تحميهم من بطش النظام أيدي أخوتهم المسيحيين المتشابكة، كم كان منظرًا آسرًا عناق الهلال مع الصليب مشهورًا في وجه جند النظام والمرتزقة، كم كانت الرؤيا حقيقة قيام الصلاة والقداس بذات المكان والأنفس مرتعشة. أخافوهم بالسقوط في الفئوية، وضللوهم بالمذهبية، لكنهم وقفوا جميعا يدا واحدة مرددين صيحة مدوية وطن واحد يجمعنا ولترحل الهمجية، رددوا سلمية سلمية أمام جحافل غزاة الجمال والحمير وأمام رصاص البندقية بصدر عارٍ إلا من صدق الوطنية. أمام لوحة سيريالية كهذه تذكرت قصيدة رائعة لنزار قباني بعنوان: يا تلاميذ فلسطين تنطق بلسان حال كثير من الشعوب المستضعفة أستعير منها: يا تلاميذ فلسطين علمونا بعض ما عندكم فنحن قد نسينا... لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا.. نحن موتى لا يملكون ضريحا ويتامى لا يملكون عيونا.. قد صغرنا أمامكم ألف قرن وكبرتم خلال شهر قرونا.. حررونا من عقدة الخوف فينا واطردوا من رؤوسنا الأفيونا.. إن عصر العقل السياسي ولى من زمان فعلمونا الجنونا.. لا شك أن مكانة مصر المميزة كدولة رائدة وتأثيرها في معظم ملفات المنطقة، سياسيا وأمنيا واقتصاديا، سيكون له دور في تحريك هذه الملفات، أقله على عملية التسوية. ومرة أخرى، وللتذكير، عملية بمعنى Process، حسب مبتدع الكلمة، سييء الذكر، وزير خارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، وقصد بها أنها عملية تسوية تفاوضية على مائدة مستديرة ليس لها قوائم مقاومة تُحسن شروطها، قدمت للصهاينة كل شيء والفتات للعرب وليس سلامًا عادلًا شاملًا كما كانوا يطالبون. سؤالي تحديدا كيف ستكون علاقة مصر، كدولة رائدة، بأمريكا التي هي الخصم والحكم في كل قضايا المنطقة، قطعا ليس المقصود هنا معاداة أمريكا أو الدخول في حرب مع (إسرائيل) فالعرب حتى لو أجمعوا أمرهم جميعا على شن حرب، ومصر بالذات أولهم، فلن يكونوا جاهزين قبل عشر سنوات، هذا إذا، -وإذا فقط- بدأوا الآن وليس غدا، تغيير معادلات المنطقة لمصلحتهم. الحرب ليست البديل الأوحد، دون ذلك مراحل لابد من قطعها، يكفي، كبداية، التعامل بندية مع هذه «الأمريكا» التي ثبت أنها رأس الأفعى وأول المتخلين عن كل حلفائها وتابعيها، الندية في صون الحقوق وحماية المصالح، يكفي كبداية تحييد الجيوش العربية من الضغوط الأمريكية من العمل كحراس للحدود الإسرائيلية وللمصالح الأمريكية، يكفي كبداية تحرير النفوس العربية من السيطرة الصهيونية التي أوغل النظام العربي، بقيادة النظام المصري السابق، في تكريسها، يكفي الإحساس بالظلم الواقع على أخوتنا العرب والمسلمين في كل بقاع الأرض بسبب التمكين الأمريكي والعربي لدولة الكيان الصهيوني سواء تحت مسمى محاربة الإرهاب واللاسامية أو التخويف بالإسلاموفوبيا، وجميعها مسميات تضليلية. لا أحد يطالب بدولة دينية لكن ليس من حق (إسرائيل) الدولة الدينية الوحيدة في العالم، أن ترفض ذلك، ونفاق الغرب يشايعها، كلنا يطالب بقيام دول ديموقراطية ومع ذلك (إسرائيل) الدولة المستعمِرة الوحيدة في العالم تعارض، وفجور الغرب السياسي يوافقها. أول المعادلات الواجب تغييرها مقولة أن لا حرب بدون مصر، فقد حدثت حروب عدة بدونها، يكفي تذكر لبنان وغزة، ثاني المعادلات التي لم يعد ممكنا قبولها صمت الجبهة الشمالية عقودًا ممتدة، ثالثها هذه التغلغلات الإسرائيلية داخل الدول العربية، لا أقصد مكاتب رعاية المصالح الاقتصادية والعلاقات التجارية وحسب، بل وكافة أشكال التطبيع التشجيعية، رابعها مقولة المعونة الأمريكية ماليًا وأمنيًا فقد ثبت أنها وهمية. [email protected]