يقول جان كوكتو “لا تبكوا هكذا، بل تظاهروا بالبكاء، فالشعراء لا يموتون إنّما يتظاهرون بالموت فقط”. لا أدري لِمَ تخطر على بالي هذه الجملة كلّما أفجعني رحيل أحد المبدعين عن عالمنا، أتساءل ونحن نقف في صفوف المعزيين، أو أمام الصفحات الثقافية، ونادرًا الصفحة الأولى في صحفنا التي غالبًا ما تحتفي بالفنانين ونجوم الرياضة، وتتجاهل المثقفين، أتساءل: هل رحلوا بالفعل؟! كيف؟! وهل يرحل حقًّا مَن يترك تركة إبداعه بين أيدينا، وفي خزينة فكرنا وذاكرتنا؟ هل يمكن للوحة تشكيلية كانت بعثرتنا ونحن نقف أمامها أن تذوب ألوانها تحت وطأة رحيل صاحبها؟ هل يمكن لقصيدة عبرت الحدود ونقشت عميقًا في ذاكرة المكان، وهبطت على جبل الروح أن يطويها رحيل شاعرها؟ هل يمكن لرواية رفرفت أوراقها كما الحمامات البيضاء أن تتمزق في وجه الغياب؟ سأكون أكيدة أن هذه الأشياء ستبقى وستقرع ناقوس الذاكرة دائمًا، وربما تكون أشد إيلامًا من رحيل أصحابها حين تذكر بهم على الدوام وبإبداعهم وبمرارة فقدانهم. أمام نهر بردى.. وقفت أطارد غيمة من دخان سجائر الماغوط التي كان يحترق بها حد الاشتعال برمادها.. أتأمل الأرصفة التي أدمن رفقتها.. والوطن الذي أقسم أن يخون، ولكن بطريقة الشعراء الفارين من قبضة العشق إلى هجيره.. ومن إدمان الأرض إلى النوم في رحمها. على مقربة من قصر الثقافة في فلسطين، وفي ليلة شتائية مجنونة، وقفت مع أشباح الليل والوحدة أمام قبر محمود درويش أرتجف كنرجسة برية نبتت خلسة أمام أكاليل الزهور على قبره لتقول.. من دمه يرويني فأزهر وتموت الزهرات بلا جذور وسقيا. أمام صفحة مليئة بالحبر.. بالوجوه المتيبسة التي عدلتها تقنية الفوتوشوب.. بحروف لا بريق لمعظمها.. أبحث عن ظلاله لأستفيء بفيء روحه التي لطالما كانت كأيقونة من حبر وزهر القلب.. أقرأ “العاشقان” لأستحضره.. أستنجد باللغة .. ب“أيامه معها” فأعود لشرفة البحر.. أنادي على آخر الرومانسيين العرب.. عبدالله الجفري.. فتصفق الريح مع كف الموج وكأنه هنا.. رحلوا.. وما تركوا سواهم.. أشياؤهم تذكر بهم.. بكل من طوقته اللغة بياقوتها وألماسها وفيروزها، كلهم هنا.. لن أبكي.. سأتظاهر بالبكاء فقط.. فهم لم يموتوا .. إنما يتظاهرون بالرحيل..