على خلاف كل القمم العربية السابقة التي كانت تهتم بشكل أساسي وجوهري على الملفات السياسية، مشغولة في ذلك بالقضايا الساخنة التي تنتظم المنطقة العربية، جاءت قمة سرت الأخيرة حاملة معها البشارة للمثقفين والثقافة العربية بموافقة القادة العرب على عقد قمة ثقافية عربية، حدد لها النصف الثاني من سنة 2011 لصياغة رؤية ثقافية مستقبلية للدول العربية ولتوفير جميع أشكال الدعم للمؤسسات الثقافية والمبدعين والكُتّاب العرب؛ هادفة من ذلك إلى الارتقاء بالإبداع العربي في مختلف المجالات، وجاءت هذه الموافقة بناء على مقترح تقدم به صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة بصفته رئيسًا لمؤسسة الفكر العربي، حيث اقترح رسميا تنظيم القمة في خطاب وجهه لأمين عام الجامعة العربية، كما ناقش المقترح معه أثناء اجتماعه به في مقر الجامعة. واستند الفيصل في مقترحه البنّاء هذا إلى أن القمة الثقافية العربية ليست أقل أهمية من القمة الاقتصادية العربية. هذا المقترح يعكس بوضوح وجلاء بُعد النظر الكبير للأمير خالد الفيصل، فما عادت الثقافة بعيدة عن المعترك السياسي أيضًا، خاصة في هذا العصر الذي تحوّلت فيه الثقافة إلى عنصر أساسي في صراع إثبات الوجود، وتأكيد الهويات المهددة بالذوبان في تيار العولمة، بما يجعل من أمر الاهتمام بها وإيلائها ما تستحقه من العناية أمرًا يتجاوز «النفل» إلى «الفرض» الواجب والمتعيّن. انطلاقة فريق العمل وما إن تمت الموافقة على هذه القمة العربية الثقافية حتى نشطت الجهات المعنية بتجسيدها واقعًا ملموسًا، حيث عقد فريق العمل الخاص بالإعداد للقمة الثقافية العربية مؤتمرا صحافيا بتونس مؤخّرًا تم فيه الإعلان عن انطلاق الاستعدادات الخاصة بعقدها، وضم الفريق مدير عام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) الدكتور محمد العزيز بن عاشور ومدير الإدارة العامة للثقافة بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية الدكتور ممدوح الموصلي والأمين العام لمؤسسة الفكر العربي الدكتور سليمان عبدالمنعم، بالإضافة إلى المستشار الخاص نائب مدير مكتب الأمين العام لجامعة الدول العربية الدكتور محمد الدالي. واستعرض مدير عام الألكسو مجمل التوجهات التي سيسير عليها العمل مستقبلًا في إطار الإعداد للقمة الثقافية التي تم إقرار عقدها في الدورة الأخيرة للقمة العربية العادية بمدينة سرت الليبية، حيث سيتم العمل ضمن مسارين أساسيين في الحقل الثقافي، هما: الإبداع والتعبيرات الثقافية المختلفة والتراث والمحافظة عليه والعمل على إدراجه ضمن مسارات التنمية المستدامة عملًا على صيانة الهوية الثقافية العربية والمحافظة عليها وسط المتغيرات الزاحفة ومدخلات العولمة، وذلك في إطار التنوع الثقافي في العالم الذي أكدت عليه منظمة اليونسكو، بالإضافة إلى ما وصفه بالرعاية الاجتماعية للعاملين في الحقل الثقافي. وأثنى الدكتور ابن عاشور على وعي القادة العرب بأهمية الثقافة العربية في تحقيق التنمية المستدامة وفي بناء الشخصية العربية وتثبيتها في مواجهة التيارات الزاحفة، كما ثمّن مبادرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة رئيس مؤسسة الفكر العربي بالدعوة إلى عقد قمة ثقافية عربية، وقال: لقد انطلقت فكرة عقد القمة الثقافية العربية بمبادرة من سموه وأولتها الأمانة العامة لجامعة الدول العربية كل العناية اعتبارًا للتحديات التي تطرحها العولمة والتهديدات التي تواجه الأمة في شخصيتها وثقافتها مما يستدعي بذل الجهد لدعم الثقافة العربية وتعزيز دورها التنموي وإعطاء الصورة الصحيحة عن الحضارة العربية. وذكر في هذا الصدد أول اجتماع عُقد في يناير الماضي لبلورة الموضوع بحضور صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة رئيس مؤسسة الفكر العربي والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى حيث انتهى إلى اقتراح عقد قمة ثقافية عربية يمكن من خلالها التصدي للتهديدات التي تواجه الأمة العربية وشخصيتها الحضارية. واستعرض الخطوات المنهجية للتوجه نحو عقد القمة الثقافية العربية ليشير إلى تشكيل فريق عمل يضم الألكسو باعتبارها المعنية بالثقافة في الوطن العربي ومؤسسة الفكر العربي صاحبة المبادرة والأمانة العامة لجامعة الدول العربية ليتم التواصل مع مختلف مكونات المشهد الثقافي العربي من مؤسسات حكومية وخاصة وجمعيات واتحادات ولجان ثقافية عربية ومكونات المجتمع المدني لأخذ رؤيتها حول متطلبات العمل الثقافي العربي لتعرض على مؤتمر لاحق لوزراء الثقافة العرب من أجل بلورة مختلف المقترحات في توصيات ترفع إلى القمة العربية، وتحدث عن إمكانية عقد منتدى ثقافي عربي يسبق القمة يستقصي مجمل الأفكار المطروحة في أذهان المثقفين. وشدد مدير عام الألكسو على أن القمة ستأخذ في اعتبارها ضرورة مواكبة العصر والأخذ بأسباب التقدم. من جانبه ربط أمين عام مؤسسة الفكر العربي الدكتور عبدالمنعم سليمان بين ما يُطلب من القمة الثقافية وبين القدرة التنفيذية والاستعداد لتمويل المشاريع ليؤكد أن القمة ستعمل على بلورة مشاريع تنفيذية. وتحدث مدير الإدارة الثقافية في الجامعة العربية الدكتور ممدوح الموصلي عن تدعيم مكانة اللغة العربية وتطويرها والاهتمام بالتراث والترجمة من وإلى اللغة العربية والمعاجم كمشاريع عملية لتفعيل حركة الثقافة العربية، كما أكد أهمية الجانب الديني والأخلاقي في بلورة الثقافة العربية التي يجب أن تعبّر عن ضمير ووجدان المثقف العربي. كما أشاد الدكتور الموصلي بالاهتمام الذي يوليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله-، بالعمل العربي المشترك والثقافة العربية وتفعيل دورها التنموي وتثبيت الشخصية الثقافية العربية في مواجهة التحديات والتهديدات المختلفة، مشيدًا بالمبادرات المتعددة التي تقدمت بها المملكة العربية السعودية في هذا الجانب. مبينًا أن اجتماع فريق العمل تركّز على بلورة خطّة أوّلية للتحرّك العملي على صعيد الإعداد لعقد القمة الثقافية العربية الأولى، مشيرًا إلى أن الفريق سيعقد اجتماعين آخرين لنفس الغرض في بيروتوالقاهرة على التوالي. وأفاد بأن المرحلة المقبلة ستشهد تحركات لاستبيان رؤى الهيئات واللجان الثقافية ومنظمات المجتمع المدني والهياكل التابعة لمنظمة الألكسو واللجان الثقافية الوطنية والجمعيات المختلفة إزاء مشاريع الثقافة العربية التي ستطرح على القمة. مبينًا أن هذه الرؤى ستبلور في مشاريع تعرض على وزراء الثقافة العرب في مؤتمرهم المقبل الذي سيعقد في أكتوبر المقبل بالعاصمة القطرية الدوحة لإعداد التوصيات النهائية التي سترفع إلى القمة بعد تمحيصها. مشيرًا إلى أن استبيانات ستوجه إلى الجهات المعنية المشار إليها لتحقيق أوسع استشارة تسبق إعداد المشاريع، منوّهًا إلى أن تنمية اللغة العربية والحفاظ عليها وتعزيز مركزها في الوطن العربي ومجالات التراث سيكون لها أولوية خاصة. مؤكدًا أن الثقافة تمثّل التعبير الصادق عن وجدان الإنسان في العالم العربي وضميره ومنطلقاته مما يستدعي جهودًا كبيرة لتفعيل دورها التنموي، وكذلك دورها في تثبيت الشخصية العربية وتعزيزها في ظل تحديات العولمة التي تهدد الثقافة العربية وشخصيتها. وأكد فريق العمل أن المشروع في أول خطواته وسيتبلور أكثر من خلال الاتصالات واستطلاع الآراء والتصورات المختلفة. مشروع نهضوي وعقب الاجتماع توجه «الأربعاء» بسؤال للمجتمعين ما إذا كانت هذه القمة الثقافية تمثّل مشروعًا نهضويًّا حقيقيًّا، حيث ابتدر الدكتور سليمان عبدالمنعم الأمين العام لمؤسسة الفكر العربي قائلًا: هذا سؤال مهم، ما فلسفة القمة؟. هل فلسفة القمة أن يخرج عنها ميثاق أو بيان أو تصريح معين أو تعمل على مشاريع وبرامج؟ الآن الفكرة التي تبلورت، إذا أردنا أن نعمل عملا ملموسا على أرض الواقع نعمل على برامج، فنحن متفقون الآن انه أصبح من المسلمات وجود قيم للمشروع النهضوي، لا أحد يختلف على أنها العقل النقدي والاستنارة والتسامح والانفتاح، لكن السؤال كيف نترجم هذه القيم على أرض الواقع من خلال مبادرات ومشروعات، إن كان في اللغة، في التعليم، في الثقافة الرقمية، في التراث.. هذا هو السؤال الحقيقي. ويضيف عبدالمنعم: لكن أنا لا أتصور أن تكون قيم وأفكار محل قرار أو توصيات، كيف أقر توصية أقول فيها مثلًا قررنا الأخذ بالقمة الفلانية.. لا؛ هي مسألة مشاريع، السؤال هو كيف نعمل لهذه القيم برامج تروج لها وننفذها على أرض الواقع، كيف هذه القيم النظرية النهضوية تترجم من خلال ميكانيزمات ومن خلال مشاريع.. فلا شك أننا كعرب سقف تطلعاتنا أكبر بكثير من المستوى الذي وصلنا إليه، لكن دعنا نجرب، ممكن الثقافة تكون مجالا نحقق فيه تضامننا الثقافي، وبالمناسبة مؤسسة الفكر العربي أحد الأهداف السبعة التي انطلقت منها هي تحقيق التضامن العربي. ويتابع عبدالمنعم حديثه مضيفًا: مبدئيا القمة ستكون مناسبة لحضور وتمثيل المؤسسات الثقافية العربية سواء كانت رسمية أو غير رسمية، ومن المؤكد أنه سيحضر فيها مثقفون عرب، لكن السؤال ما هذه المعايير وأمورها اللوجستية هذه ستتبلور فيما بعد، ودورنا نحن في هذه القمة التي تأتي في مرحلة صعبة أن نهيّئ لها الزمان والمكان، ونجاحها سيكون كسبًا هامًّا للثقافة العربية باعتبار الأخطار المحدقة بالهوية العربية وفي مقدمتها الهوية الفلسطينية وما تواجهه من هجمات إسرائيلية لطمسها وتهويدها، ومن هنا نؤكد ضرورة صيانة اللغة العربية وإرساء آليات أو محامل إعلامية كبعث قناة خاصة بالثقافة العربية وكذلك تطوير وترشيد حركة الترجمة وضرورة الدفاع عن حق التنوع الثقافي. أولويات في الأجندة ويختم عبدالمنعم حديثه بالإشارة إلى أن المشاريع ستحظى بالأولوية في القمة العربية الثقافية قائلًا: نحن مازلنا في مرحلة استطلاع رأي المثقفين والمؤسسات الثقافية العربية، لكن حتى الآن تبلورت عدة أفكار منها دعم اللغة العربية، الاهتمام بدعم التراث، دعم المحتوى الرقمي للثقافة العربية واللغة العربية، إطلاق فضائية ثقافية عربية، فانتم تعرفون حركة (الشيفونية) اليوم وصلت إلى حالة تثير القلق، خصوصًا الرياضية، فلاشك لا بد من وجود فضائية ثقافية عربية تصوب الوعي العربي وتكافح الوضع الحالي، وفي اعتقادي أصبحت مسألة مطلوبة، وإذا كنا نتحدث عن الحوار مع الآخر فلا أقل منه أن نتحاور مع أنفسنا أولًا، وليس عيبًا أن نعترف بالمشاكل التي تواجهنا، الاعتراف بأن لدينا قصورا معينا ومنها نعالج واقعنا الثقافي. اجتماع وزراء الثقافة العرب أما في القاهرة فيستعد الاتحاد العام للأدباء والكُتّاب العرب الذي يتخذ من القاهرة مقرًّا له لتوجيه الدعوة إلى وزارة الثقافة والإعلام بالمملكة لحضور اجتماع موسع خلال شهر مايو المقبل لبحث ترتيبات عقد قمة ثقافية التي دعت إليها مؤسسة الفكر العربي برئاسة الأمير خالد الفيصل والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. وكان رئيس اتحاد كتاب مصر والأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب العرب الكاتب محمد سلماوي قد أوضح في تصريحات صحافية أن الاجتماع سيخلص إلى وضع ورقة عمل في هذا الشأن، تعرض بعد ذلك على مؤتمر تحضيري تعقده جامعة الدول العربية بمشاركة مؤسسة الفكر العربي واتحاد الفنانين العرب واتحاد الناشرين العرب إلى جانب اتحاد الكتاب. وأضاف سلماوى أن اتحاد الكتاب العرب يعكف حاليًا على وضع ورقة عمل لعرضها على القمة العربية الثقافية باعتبارها أحد الداعين لها لوضع جدول أعمال القمة، بحيث يتم تقديم القرارات المقترحة على القادة العرب، داعيًا إلى أن تكون هذه القرارات سيادية تحمى الثقافة العربية مما تتعرض له الآن. ترتيبات القمة وكان الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى قد استقبل مؤخّرًا كلًا من سلماوي ورئيس اتحاد الفنانين العرب الفنان أشرف زكى ورئيس اتحاد الناشرين المصريين ونائب رئيس الاتحاد الدولي للناشرين المهندس إبراهيم المعلم لبحث ترتيبات تلك القمة، وقد تم الاتفاق على بنود الاجتماع الذي سيدعى إليه رموز الثقافة العربية في مختلف المجالات الثقافية ومن مختلف الأقطار، لتحديد الموضوعات والقرارات التي تعرض على القادة العرب في القمة الثقافية. وقد أبدى عمرو موسى رغبته في أن يتحوّل هذا المؤتمر الذي سيتم تحت مظلة جامعة الدول العربية إلى مظاهرة ثقافية وفنية كبرى تكون بمثابة تأكيد على ثراء الثقافة والفنون والآداب في الوطن العربي، حيث سيصاحب جلسات المؤتمر الفكرية عروضًا متنوعة في مختلف الفنون العربية.