إدارة هذه القناة لابد أن يقوم عليها أشخاص يتمتعون بالاستقلالية في الرأي، وبالقدرة على التعامل الإيجابي مع الأطياف المُشكلة للخطاب الثقافي واحتوائها بعقلية احترافية ومهنية عالية مبنية على استراتيجية واضحة المعالم علمية المنهج استقبلت الأوساط الثقافية السعودية بسرور مشوب بالحذر إطلاق أول قناة فضائية متخصصة في متابعة شؤون وشجون المشهد الثقافي المحلي وتجلياته الإبداعية وتوجهاته المتباينة ؛ سروراً لأنها ستفتح نافذة ذات أفقٍ أوسع تُحلِّق بالفكر والثقافة بعيداً عن المحددات الصارمة التي خلفها زمن القطب الأحادي وتعاطيه الإقصائي مع أي بادرة للتغيير والتجديد ؛ مما كان له أبلغ الأثر في قتل الإبداع ووأده في مهده ، وستكون صوتاً للمشتغلين بالهم الثقافي ، ومنبراً لهم للتعبير الحر لما يختلج في صدورهم ، ووعاءً يُفرِّغون من خلاله ما تنفذه رؤاهم خدمة للكلمة الصادقة ، ووفاء للأمانة الملقاة على عواتقهم ، ومشوباً بالحذر في أن تكون هذه النافذة الفضائية أداة موجهة تُغيِّب الموضوعية من خلال إبراز توجه على حساب آخر ، وأن تُركز على الجوانب المادية المُبهرة – مع أهميتها – على حساب المضمون المتمثل في البنى الفكرية والثقافية التي هي لُب العمل المنشود ، وأن تخضع للقيود الإدارية التي تعيقها عن تنفيذ فعالياتها المرتكزة على احترام وجهات النظر المتباينة ، وقبول الرأي الأخر بناءً على مدلول قول الإمام الشافعي : قولي صحيح يحتمل الخطأ ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب ، مع الأخذ في الاعتبار ألاّ تركن فعاليات هذه القناة إلى إبراز الحراك الثقافي السعودي فقط بقدر ما تسعى إلى إنشاء جسور إيجابية مع ثقافات الشعوب الأخرى من أجل إحداث نوع من التلاقح الفكري والتزاوج الثقافي ، مُعضدةً ذلك بتقديم رؤية استشرافية لما يجب أن يكون عليه الفعل الثقافي في المستقبل. فإذا لم يتوافر لهذه القناة هذه الأرضية الخصبة التي تتلقف البذرة – المتمثلة في مُنجز المثقف – أيِّاً كان ، وتعمل على تنميتها وعرضها لتصل إلى أكبر شريحة ممكنة من المتلقين - كما هي - دون تدخل يبتسر حقيقتها ويخلف مكنونها ؛ بهدف إثارة التساؤل الدائم حولها لإثرائها ؛ على اعتبار أن الثقافة تحتاج إلى فهم متجدد وتخطيط مستمر لإيجاد بدائل لكل ما من شأنه بلورة العقل في إطار قبول التعددية في الرؤى والتنوع في طرح الأفكار ، وصهر الأطياف في بوتقة العمل المشترك ، وتعميق المسلّمة التي تقول : إن ما يؤمن به المثقف لا يخوله بأي حال من الأحوال إسقاطه على النسيج المجتمعي ذي الاتجاهات المتباينة كخيار وحيد لا بد من القبول به ، وتهميش ما سواه. وإن لم يتحقق ذلك فكيف نسعى للوصول إلى العالم الأول ونحن نرزح تحت تأثير نمطية ثقافية ضخّمت الأنا في ذواتنا ، وجعلتها دافعاً لأُطر العلاقات بين المشتغلين بالشأن الثقافي حتى تجذّرت في نفوسهم ممارسة هذه الأنماط السلوكية غير السوية التي لا تعكس بالطبع البنية التي يجب أن تقوم عليها أي ثقافة تتخذ من الوعي طريقاً لها ، ومن الموضوعية منهجاً تسير في جلبابه ، ومن تغليب المصلحة العامة غاية تبتغيها. وهذا الدور يتطلب القيام به مجموعة من أبناء المجتمع الذي يعلِّق عليهم آمال كبيرة باعتبارهم معنيين بصياغة العقول البشرية ، وإعمال الجانب التنويري فيها ، وتحفيزها على التفاعل الإيجابي مع المعطيات الراهنة بخطى وثّابة لصناعة المستقبل المشرق له. ولكن من سيقوم بهذا الدور تحديداً ؟ اجزم أن المثقف هو القادر على القيام بهذا الدور لأنه ينطلق بمشروعه بناءً على رؤية واضحة وفكرة خلاّقة دون الاتكاء على خلّفيات واهية تنعكس سلباً على إبراز منجزه الفكري المعتمد على لغة العقل وإملاء المنطق ؛ شريطة أن يتمتع هذا المثقف بقدر كافٍ من الشجاعة والتضحية في الدفاع عن منتجه وتحويله إلى واقع ملموس . هذا النموذج من المثقفين هو من سيعيد إنتاج التاريخ بروح العصر المعاش مع القدرة على مسايرة تقدمه وتطوره من خلال التحرر من الأفكار والأنماط السلوكية التقليدية والبحث في مكنون النفس الإنسانية لإفساح المجال للطاقات الكامنة لممارسة الإبداع الذاتي. وتأسيساً على ما سبق فإن المثقف يقع على عاتقه قيادة مجتمعه عن طريق تبنيه للصيغة المثلى في كيفية التعامل مع الاختلاف في وجهات النظر المتباينة ، وتفعيل مبدأ الحوار البنَّاء ، وتطبيق سياسة الاحتواء ، ونبذ أفة الإقصاء ، بل يتجاوزه إلى تغيير نظام الفكر السائد فيه. ونظراً لهذه الأدوار النوعية التي يقوم بها المثقفون فإن إدارة هذه القناة لابد أن يقوم عليها أشخاص يتمتعون بالاستقلالية في الرأي ، وبالقدرة على التعامل الإيجابي مع الأطياف المُشكلة للخطاب الثقافي واحتوائها بعقلية احترافية ومهنية عالية مبنية على استراتيجية واضحة المعالم علمية المنهج. هذه الرؤى نضعها على طاولة المعنيين بتشغيل القناة الثقافية لعلها تكون رافداً يخدم المُعطى الثقافي ، ويجعله مواكباً للتحولات الكبيرة التي يشهدها العالم من حولنا ، مع ضرورة الاستفادة من التجارب السابقة في مجال صناعة الثقافة سواء على مستوى التنظيم أو امتلاك التقنية أو الاستعانة بالكفاءات البشرية المؤهلة – في المرحلة الأولى على الأقل – لتعمل جنباً إلى جنب مع الكوادر السعودية في سبيل اكتساب الخبرات اللازمة، وألاّ تكون مطالب السعودة – المزعومة - عائقاً لهدف أسمى نسعى إلى تحقيقه .