يفد على الأمة الإسلامية موسم الحج المبارك لهذا العام 1430 ه والأمة ليس فقط في مزيد فرقة وتناحر بل وفي هرج ومرج إذ لا يكاد المرء أن يسمع أو يرى أخبار الصباح يومياً إلا ويصدم بمناظر الدماء والأشلاء ونبأ مقتل العشرات وجرح المئات في هاتيك البلدة المسلمة أو تلك على أيدي التفجيريين والمفسدين في الأرض في تصديق لنبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم عن زمنٍ يأتي يقتل فيه الرجلُ الرجلَ لا يدري فيما قتله، وحروب أهلية طاحنة تعيشها البلد والدولة المسلمة الواحدة في الباكستان والصومال والعراق واليمن، وحرب قريبة من أرض الحرمين والمشاعر الحرام بسبب محاولة البعض فرض الطائفية على تركيبة المنطقة وإدخال فيها ما ليس منها من المذاهب والولاءات والانتماءات الطائفية ونقل الحرب الأهلية القائمة في اليمن عبر الحدود إلى المملكة العربية السعودية خادمة الحرمين الشريفين قيادةً وشعباً، وتهديدات من إيران على لسان أعلى رموز السلطة فيها بالتحريش بين المسلمين في موسم الحج تحت مظلة النداء بالبراءة من أمريكا وإسرائيل في حين الذي لا تجد إيران حرجاً من التعامل معهما سراً وعلناً على الأقل في شأن ملفها النووي الشائك وبالغ التعقيد، وحرب أخرى كلامية إعلامية وبالحجارة كادت أن تفسد العلاقات الرسمية والشعبية بين دولتين عربيتين مسلمتين من أجل مباراة كروية وكأننا بصدد بعث داحس والغبراء بين دولتين مسلمتين عربيتين على مباراة كروية والعودة لنعرات الجاهلية بعد أن هدانا الله للإسلام، والسبب الرئيس في كل تلك المشاكل الكبرى هو ضعف وأحياناً انتفاء مفهوم ومشاعر الأخوة الإيمانية عند البعض من المسلمين. والحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام الذي لا يكتمل إسلام أي امرئ مسلم حتى يؤديه مرةً واحدةً في العمر استجابة لأمر الله (ولله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، وللحج مقاصد كبرى على رأسها توحيد الله تعالى وتزكية النفس وخروجها من الآثام والخطايا وفتح صفحة جديدة في الحياة (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، تأكيد الأخوة الإيمانية بين المسلمين وليس أدل على الثانية من تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم عليها في خطبة الوداع التي جاء فيها (أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟ فقال الناس: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد، ثلاثاً). يجد المتلمس للحكم الإلهية في فرض شعيرة الحج أن معظم مناسك الحج تؤكد تأكيداً عملياً على ضرورة الوحدة بين أبناء الأمة الإسلامية فالمسلمون جميعا يتلبسون بالحالة الروحية ذاتها وتتبلور مادياً في لبس الإحرام ذاته من قبل الجميع ويؤدون العبادات ذاتها من وقوف بعرفات وإفاضة لمزدلفة ووصول لمنى وطوافٍ للإفاضة... الخ بالطريقة ذاتها وفي توقيت موحد، فيدفعهم توحد الحال إلى التفكير في أصل نشأتهم، وأنها واحدة ومن عند الله سبحانه كما أوضح للأمة رسولها محمدٌ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ( يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر ؛ إلا بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، ثم قال: أي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: ثم قال: أي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم قال: ولا أدري قال: أو أعراضكم أم لا كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ليبلغ الشاهد الغائب ). وفي الحج يجتمع المسلمون من كل قارات العالم، على اختلاف أشكالهم وألوانهم وألسنتهم وتراثهم الثقافي والاجتماعي والتاريخي لكنهم مع اختلاف ألوانهم وألسنتهم ومشاربهم الثقافية يعبدون ربّا واحدا ويؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم كخاتم للإنبياء والمرسلين ويدينون بدين واحد، ويتجهون إلى قبلة واحدة ومغزى كل مظاهر وجوهر هذه الوحدة التعبدية والمظهرية هو أن المسلمين أمة واحدة مهما اختلفت مظاهر الناس بسبب البيئة وظروف النشأة، وأنه لا بد لهذه الأمة الإسلامية أن تكون موحدة إن هي أرادت أن تكون قوية لها قيمتها الحقيقية بين سائر أمم الأرض. ولأن المسلمين بشر يعيشون على الأرض في الحياة الدنيا وليسوا ملائكة تعيش مسبحة في كنف ملك الملوك فلا مناص من اختلاف التنوع بينهم في الفروع قد تزيد أحيانا وقد تنقص أحيانا أخرى، ولا شيء في اختلاف التنوع هذا فهو جزء من طبيعة الحياة، ويجب أن نستثمره ليحقق لنا مزيدا من القوة والصدارة، لكن الواجب أن يحرص المسلمون في كل وقت ٍ وفي الحج على وجه الخصوص على الاتفاق على المبادئ والقضايا الكبرى كأمة واحدة يشعر بعضهم بالحاجة لبعض ويستشعرون الانتماء الذي لا انفصام له للأمة. كان ماضي الأمة رائعاً مجيداً بكل المقاييس واستطاعت أن تقدم الحضارة بكل مقاييسها للبشر عامة، وعلى المسلمين اليوم أن يعودوا للأخوة الإيمانية ويتخذوا من الحج مناسبة لدعم إخوانهم في غزة وفي الصومال وفي كل مكان، وليس مهما أن تكون كل دول المسلمين دولة واحدة لنحقق الوحدة المنشودة، المهم أن يعملوا معا يدا واحدة ليكونوا قوة لها مكانتها الدولية. أليس من سخط الله أن يترك المسلمون إخوانهم في غزة وفي الصومال جياعا ومرضى ويكتفون بالتفرج على مآسيهم وكأن الأمر لا يعنيهم ؟ أين حقوق الأخوة الإيمانية ؟ أليس من الفرقة أن تملك أمتنا ثروات طائلة مادية ومعنوية تسمح للآخرين بالتدخل في شؤونها، أليس من الفرقة الممقوتة أن يتناحر المسلمون بينهم، بسلاحهم تارة وألسنتهم تارة أخرى؟، فمن كان يريد أن يحج حجاً مبروراً يخرج منه كيوم ولدته أمه فليحرص على ما يجمع الأمة لا ما يفرقها، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك.