اصطفى الله قلب الجزيرة العربية مصدر إشعاع لدينه الحق ليبصر به عيوناً عمياً، ويفتح آذاناً صماً، ويهدي قلوباً غفلاً ويجلي عن أهلها جاهلية جهلاء، وظلمة حلكاء سربلت عقول أهلها، وقيدت إرادتهم فأوردتهم طقوساً، واعتقادات خرافية لا تقوم على دليل يقره عقل رشيد، ولا تقبلها فطرة إنسان سوي. وانتقى الله خير عباده قاطبة، وأفضل رسله كافة، ليحمل أعباء الرسالة، وهموم الدعوة، ويشق طريق هداية الناس، ليخلصهم من شطحات اعتقادية، ورواسب سلوكية، فكان مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إحياءً لأمة بكاملها جدد فيها الملة الإبراهيمية وأعاد في نفوسهم الدين القيم جذعاً فتياً تنامت وبسقت من أحضانه مكارم الأخلاق فكان العدل ركيزتها، والصدق شعارها، والرحمة دليلها لهداية الناس، والحق منهجاً لا تبغي به بدلاً. وارتقت تلك الشعوب أرقى مقام الإنسانية، واعتلت مستوى لم يكن في حسبان حكمائها، بل كانوا ينظرون إليه على أنه ضرب من الخيال السابح في فضاء الأماني. وما ذلك الفضل الذي شرفوا به إلا لأنهم ساروا خلف أشرف متبوع وأفضل رحمة مبعوثة للعالمين. والنصوص النبوية تجسد لنا حال الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يتلقون أسس الدين، وأحكامه من مورده العذب، ومن سلسله النمير بكامل الاقتناع المطلق، والتسليم التام الذي لا يتسرب إليه شك أو ريب.. ومن تلكم النصوص ما رواه أبو داود في سننه عن ابن عباس قال: إن وفد عبدالقيس لما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرهم بالإيمان بالله قال: أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم. ومنه الحديث الذي رواه الترمذي في سننه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتدرون ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. قال: أتدرون ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - موئلاً للصحابة يستلهمون منه أمور دينهم، وما خفي عليهم من آيات الذكر الحكيم، فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفة عن أنس بن مالك قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا إذا إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا ما أضحكك يا رسول الله قال نزلت عليَّ آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ «1» فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ «2» إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «3»} ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه يوم القيامة أمتي، آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم، فأقول رب إنه من أصحابي، فيقول: لا إنك لا تدري ما أحدث بعدك. ويؤكد ذلك ما رواه الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} «4» سورة الزلزلة. قال أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا كذا وكذا فهذه أخبارها. كان الصحابة يتلقون نصوص الكتاب والسنة من النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلِّمين بما بينه فيها من النواهي والأوامر، ومن مقاصد الشريعة وحكمها الجليلة دون أن يكون لهم الخيرةُ من أمرهم، وما ذلك اليقين الذي سكن قلوبهم إلا برهان من لدنهم على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحق المطلق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ومؤيد بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما إن استقرت تلك الحقائق في أفئدتهم حتى سعدوا بنور الإيمان الملبي لتساؤلات النفس، والمحيي لنوازع الخير والكابح لجوامح الشر فعادت فطرهم سوية بعد رجز الجاهلية. هكذا دوَّن التأريخ سيرة الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -ألفة تسودهم، وتآلف يسمو بهم، واجتماع على كلمة سواء كانوا جسداً متحداً لم يعتره خور الشقاق، أو النزاع، بل مصان بتبعيتهم لمنهج النبي - صلى الله عليه وسلم -ولا أشرق صورة في ذلك من موقف المقداد بن عمرو يوم بدر حين قال: (يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك واللهِ لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون). وسار الصحابة مع نبيهم على هذه السمة حتى قبضت روحه الشريفة، ولحقت بالرفيق الأعلى فحلت بعض المستجدات المسببة للخلاف في الآراء، شأنهم في ذلك شأن جميع المجتمعات التي تطرأ عليها حوادث ونوازل تولد معها تضارب في الرؤى المقترحات. ومن الأمور التي حدث فيها شيء من الخلاف الفطري اختلافهم في موضع دفن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم اختلافهم في الإمامة بعده، ثم اختلافهم في مانعي الزكاة إلى غير ذلك من الخلافات التي لم تشغل هامشاً تاريخياً، ولم تؤدِ إلى صدع في وحدة المسلمين، وإنما سرعان ما يؤول أمرها إلى اتفاق تقدم فيه مصلحة الأمة، ويحترم فيه موقف كبار الصحابة. وظلت الأمة ذات جسد متماسك مستمدة حصانتها من اتباع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - والسير على نهجه الكريم في جميع الأحوال والظروف حتى دارت الأيام دورتها ووقعت حادثة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فانقسم المسلمون إلى طائفتين طائفة تريد مبايعة إمام المسلمين وهذه على رأسها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وطائفة تريد أولاً القبض على قتلة عثمان رضي الله عنه ثم البيعة وهذه على رأسها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ولم تكن الحلول السلمية مجدية فمضى قدر الله والتقت الطائفتان ودارت بينهما أحداث معركة صفين فكان علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قطبي رحاها وإبان احتدام المعركة اقترح عمرو بن العاص التحكيم فرفع جيش معاوية المصاحف فوق سيوفهم إشعاراً منهم بطلب التحكيم، فقبل علي رضي الله عنه التحكيم الذي قدمه جيش معاوية رضي الله عنه حقناً لدماء المسلمين، وصيانةً لأعراضهم وأموالهم، ورفض التحكيم زمرة من جيش علي فخرجوا عن إمرته ورموه بالكفر بسبب شبه استحكمت على عقولهم فسميت تلك الثلة بالخوراج وعلى يديها تأسست مدرسة التكفير بعد أن وضعوا معاييرها، وشكلوا ملامحها الفكرية. ومع مرور الأيام وتعاقب السنين اتسعت دائرة المنضوين تحت لواء هذا الفكر فمهما افترقوا في الزمن فإن المنهج والمنطلقات تجمعهم، فالتكفير شعارهم، واللوذ في بكور الجبال، وبسيطة الفيافي سجيتهم، تقفوا فيها خطى واضعي بذرة هذا الفكر فأسلافهم من الخوارج بعد أن انشقوا عن جيش علي رضي الله عنه في موقعة صفين اجتمعوا في منزل أحدهم وخطب خطيبهم قائلاً: (فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينيبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن قال فاخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال وإلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع). إن من يستقصي الدواعي التي وقفت وراء نشأة هذا الفكر وتكوينه في الغابر وتجدده في الوقت الراهن يلفها لا تخرج في جميع الحالات عن البواعث الآتية: أولاً: إن من المُسلَّم به أن المجتمعات الإسلامية لم تسلم من تسلل بعض الخلال الجاهلية إلى فئام من أفرادها وقد لمسنا ذلك في فجر الإسلام عندما كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فكان بينهما قتال، إلى أن صرخ الأنصاري يا معشر الأنصار وصرخ المهاجري يا معشر المهاجرين، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما لكم ولدعوة الجاهلية) فقالوا كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال رسول الله: دعوها فإنها منتنة. نزاع يسير أجج دعوة جاهلية، وبث مفاهيم بائدة تهاوت أمام نور الإسلام ونبذت، واستقبحت تلك الخصلة بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فما بالك بزمن علي رضي الله عنه وقد تربص بالأمة شياطين الإنس والجن يتحينون الفرصة السانحة لتفريق شمالها بأي وسيلة كانت والنفس البشرية إن لم يتمكن من قلبها الإيمان ويهيمن على جوارحها ويُسيِّر نوازعها وإلا فهي مجبولة على استحلال كل محرم لمواجهة من تناصبه العداء فتذهب إلى إلغاء فضائله، وإلصاق أبشع التهم به ووصفه بأسوأ الصفات واتخاذ كل الوسائل والطرق في إيذائه وزعزعت كيانه وهذا ما ابتلي به علي رضي الله عنه عندما قبل التحكيم من قبل معاوية رضي الله عنه في موقعة صفين جوبه برفض ثلة من جيشه قبول علي رضي الله عنه التحكيم وقد كانت غالبية تلك الشريحة الرافضة للتحكيم من أعراب البادية الذين حملوا في قلوبهم بذرة تلك الخصال من جاهليتهم فنمت واستوت على سوقها في اتون تلك المحادة والمعادة التي خاضوها ضد علي رضي الله عنه ومن أجل تحقيق مآربهم ركبوا كل مركب ليثأروا لأنفسهم التي امتلأت بغضاء وشحناء على علي رضي الله عنه، وأتباعه فانبروا في تكفيرهم، ليسقطوا عنهم كل حرمة لدمائهم وكل حصانة لأعراضهم، ولينتصروا لذواتهم، وليذهبوا غيظاً استوطن قلوبهم، وليلغوا الطرف المعادي لهم بالطريقة التي تشرعها أنفسهم الفظة، وتبررها ضمائرهم السخيمة وقد دأبوا على هذا المنهج حتى جاء الزمن الذي يجمعنا بأحفادهم لنصطلي بأوار نزقهم ونكتوي بحماقة أفعالهم غير المراعية لحرمة زمان، أو قداسة مكان. ثانياً: ومن البواعث على نشوء هذا الفكر وانتشاره فهم النصوص فهماً يخالف مرادها، وجهل أسباب نزولها وقد ذكرت سالفاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين للصحابة مقاصد الشريعة في كثير من النصوص، وكشف عن الظروف التي أدت إلى نزولها ولما جاءه اليقين ولحق برب رحيم جاء بعده الصحابة فصدرت من بعضهم اجتهادات جانبت الصواب ومنها ما ذهب بعض الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً بأنه لا حاجة إلى السعي بين الصفى والمروة لأن الله يقول: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) ورفع الجناح يعني عدم الوجوب فلما سمعت بذلك عائشة رضي الله عنها قالت: ليس الأمر كما فهمت، ولكن بعض المسلمين كان يسعى في الجاهلية بين الصفا والمروة والأصنام هناك، فلما أسلم صار يتحرج أن يفعل ذلك كما كان يفعل من السعي، فأنزل الله الآية لرفع التحرج. فالناس مختلفون في مداركهم العقلية، ومتفاوتون في ملكة الفهم ومتباينون في قدراتهم على استنباط الأحكام من أصول الشريعة الإسلامية، وذوو اجتهادات عدة في تأويل القرآن الكريم وما تفرقت الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك إلا بسبب اختلاف الآراء في فهم النصوص، وجهل معرفة أسباب النزول. ذكر الإمام الشاطبي في كتابه (الموافقات في أصول الأحكام) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلا بنفسه يوماً يسأل كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد، وقبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: (يا أمير المؤمنين: إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ونحن نعلم فيما نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا اقتتلوا قال: فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس ونظر عمر فيما قال فعرفه فأرسل إليه، فقال: أعد علي ما قلت فأعاد فعرف عمر قوله وأعجبه). قال ابن ابي العز الحنفي (في شرح العقيدة الطحاوية) (وهل خرجت الخوراج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد). وقال ابن القيم في (كتابه إعلام الموقعين) (فافتراق أهل الكتاب وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل). والخوارج فرقة من تلك الفرق التي حادت عن سواء السبيل فبنت فكرها، ورسمت منهجها من منطق خاطئ في فهم النصوص الدينية مما جرهم إلى ارتكاب أعمال مشينة برروها بنصوص دينية ليضفوا عليها صبغة شرعية، وليغووا الدهماء بسلامة صنيعهم ليباركوا لهم تلك الأعمال الخارجة عن جادة الصواب. ومن جملة تلك الآيات التي أساءوا فهمها قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} «57» سورة الأنعام. فقد ذكر الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) أن الخوراج ارتأت عدم حاجة الأمة إلى إمام وإنما على الناس أن يعملوا بكتاب الله من أنفسهم وقد فند علي بن أبي طالب هذا الادعاء المغرض وقوَّم فهمهم الذي ضل السبيل فعندما سمعهم يقولون: (لا حكم إلا لله) قال: (كلمة حق يُراد بها باطل، نعم.. إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمنون، ويستمتع فيها الكافر ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويُستراح من فاجر). ومن نتائج فهمهم الموغل في العوج قتلهم عبدالله بن خباب بن الأرت وقتل زوجته وبقر بطنها وقتل الجنين، وحينما طالب علي رضي الله عنه بدمه وسأل عن الدافع الذي كان سبباً في ارتكاب جريمتهم الشنعاء استدلوا له بقوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}. فاتخذوها ذريعة لسفك دمه وانتهاك حرمته. ذكر الشاطبي في كتابه (الموافقات في أصول الأحكام) (من رواية ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعاً كيف كان رأي ابن عمر في الخوراج قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين). فياله من فكر شطح عن الصراط المستقيم فكان موقظاً لكل فتنة غشوم، كل فتنة مزهقة للأرواح، ومهلكة للحرث وأي وبال مُنيت به الأمة أكبر من ذلك. ثالثاً: ومن البواعث التي كونت فكر الخوراج وأغوت قليل البضاعة من العلم والوعي الخلط وعدم التفريق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر وذلك في استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} «44» سورة المائدة. فانطلقوا من واقع خلطهم العجيب إلى تكفير كل مَنْ لم يحكم بما أنزل الله تكفيراً أكبر مخرجاً من الملة ولو رجع سفهاء الأحلام إلى فهم السلف الصالح لتجلى لهم ما وقعوا فيه من لبس وخلط ومن سلف الأمة الذي بين مفهوم الكفر هنا ابن عباس رضي الله عنه حبر الأمة وترجمان القرآن فقد أجمعت الأمة على تفرده بتفسير القرآن الكريم فقال رضي الله عنه مخاطباً أجلاف الخوارج في عصره وموضحاً لهم معنى الكفر المذكور في الآية: (ليس الكفر الذي تذهبون إليه وإنما ليس كفراً ينقل من الملة وهو كفر دون كفر). وجاء من بعده شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وطالباً في كتبهما بالتفريق بين كفر الأكبر والكفر الأصغر. فكلمة الكفر وردت كثيراً في الكتاب والسنة ولكن لا يمكن أن يفهم منها على أنها تعني الخروج من الملة ومن ذلك ما ورد في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) فالكفر يُراد به هنا المعصية التي لا تخرج صاحبها من الدين. ومن الآيات التي التبست على أفهام الخوارج ولم يفرقوا فيها الخلط بين الفسق الكفر وذلك في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} «55» سورة النور. فرموا كل فاسق بالكفر، من واقع هذه الآية نتيجة عدم التفريق بينهما فاتهموا المسلمين بهتاناً وظلماً وهذا غير صحيح فكل كافر فاسق وليس كل فاسق كافر فالفسق يطلق على الذنب الصغير وعلى الكفر فيكون كل كافر فاسقاً وليس كل فاسق كافراً؛ لذا قال الله تعالى في وصف أحد صحابة الرسول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} «6» سورة الحجرات. ومن الخلط الذي وقعوا في شراكه الخلط بني الكفر والظلم وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} «254» سورة البقرة. ومما لا جدال فيه أن كل كافر ظالم ولكن هل كل ظالم كافر؟ بالطبع لا فيونس عليه السلام يقول: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} «87» سورة الأنبياء. إن هذا اللبس الذي غشى بصيرة الخوراج فأفقدهم القدرة على التفريق بين كفر وكفر وبين الظلم والكفر وبين الفسق والكفر أفضى بهم إلى تصنيف المجتمعات إلى مسلم وكافر مما جلب الصراع والنزاع بين أبناء المجتمع في حين لو رد أصحاب هذه الدعاوى التكفيرية تلك النصوص الدينية إلى فهم السلف الصالح لانجلت تلك الغمة من فوق رؤوسهم واندحرت تلك الشبه من بصيرتهم ولكن مَنْ يضلل الله فماله من هاد. يتضح لنا بعد هذا وذاك أن الخوارج خنجر في خاصرة الأمة الإسلامية فكم سر الأعداء بنزيف دماء الأبرياء وكم سعدوا برؤية أمتنا تنهك قواها وتستنزف قدراتها جراء الأعمال المستهجنة التي يرتكبها أرباب فكر التكفير أدركوا جريرة ذلك أم لم يدركوا. روى مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك: ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً). إنها لدلالة دامغة على معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخبر عن حوادث ستقع في مستقبل الدهور وقد رأته الأبصار وصدقته الصدور. إنه حديث يحكي ذلك المأزق الذي تمر به الأمة ويصور الواقع المرير الذي نعاني منه فالبأس والعدوان على مجتمعنا لم يأتِ من غريب الوجه واللسان ولم يكُ من مجهول الهوية بل جاء من أبناء جلدتنا يجمعنا بهم سماحة دين واحد ووطن كريم واحد أقلتنا غبراء واحدة، وأظلتنا خضراء واحدة والأدهى من ذلك كله أنها اتخذت إزهاق الدماء البريئة وإتلاف الأموال المعصومة وترويع الآمنين قرباناً تتقرب به إلى الله، وما علموا أنها رهبانية ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان. *[email protected]