كنت في وقت متأخر من مساء يوم الخميس الماضي أمام شاشة التلفاز وإذ بالشريط الإخباري للجزيرة الذي لم أعهد قراءته من قبل إلا جبراً، يمر مراراً بين ناظري دون أن أكثرت فيه حتى قال لي مَنْ بجواري: اقرأ هذا الخبر (وزير الشؤون الإسلامية في.. يقول: الحجاب دخيل على ثقافة بلادنا...) والبلد وللأسف الشديد بلد إسلامي عربي والوزير مختص بالشؤون الدينية الإسلامية!! وفي ذات المساء كنت أتابع قناة المجد وهي تطرح وتسأل أهل الاختصاص والعامة حول أثر الفتوى الشرعية على الاكتتاب في الأسهم المحلية.. وتستشرف الرؤية المستقبلية للفتوى الشرعية في مسائل المعاملات المالية إذ لا أحد ينكر قدر ومنزلة العلماء وطلاب العمل في بلادنا - حفظها الله وحماها - عند الخاصة والعامة الدهماء على حد سواء.. وخلال الأيام الماضية كان التلفزيون السعودي يستضيف بين الفينة والأخرى علماء أجلاء يكشفون حقيقة التطرف ويبينون خطورة الإرهاب وشناعة مسلك المتطرفين الذين ركبوا موجة العنف.. قلتُ في نفسي هؤلاء جميعاً يستندون جزماً إلى فتوى شرعية حتى المنحرفين عن جادة الصواب المتخذين التكفير والتفجير منهجاً وسبيلاً.. حينها قررت أن أستضيف في هذه الزاوية التي عنونتها ب(الموقعين عن الله) شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى عام 751 للهجرة ليبين لنا خطورة مسألة تنصيب الإنسان نفسه للناس ليقول لهم هذا هو مراد الله.. ومن جميل قوله - رحمه الله - في هذا ما نصه: (ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟ فحقيق بمن أُقيم في هذا المنصب أنْ يَعِدَّ له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أُقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالة إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ}، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله). بالمناسبة يعيب البعض على العالم أن يقول لا أدري بل إن بعض طلبة العلم يخشى أن يسقط من عيون الناس وطلابه إذا سُئِلَ وقال لا أعلم فيفتي بغير علم فيضِل ويُضل ويُوقِّع عن الله زوراً وبهتاناً وربما قادته نفسه أن يورد حديثاً يسند ما يقول، والحديث إما غير صحيح أو مكذوب موضوع.. في الحديث: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار). يقول ابن القيم ضيف هذا اللقاء: (... قال أبو داوود في مسائله: ما أحصى ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري، قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه، كان أهون عليه أن يقول لا أدري. وقال عبدالله بن أحمد في مسائله: سمعت أبي يقول: وقال عبدالرحمن بن مهدي: سأل رجل من أهل الغرب مالك بن أنس عن مسألة فقال: لا أدري. فقال: يا أبا عبدالله تقول لا أدري؟ قال: نعم. فأبلغ من وراءك أني لا أدري). وقال عبدالله: كنت أسمع أبي كثيراً يُسأل عن المسائل فيقول: لا أدري ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيراً ما كان يقول: سل غيري، فإن قيل له: مَنْ نسأل؟ قال: سلوا العلماء، ولا يكاد يسمي رجلاً بعينه. قال: وسمعت أبي يقول: كان ابن عيينة لا يفتي في الطلاق، ويقول: مَنْ يُحسن هذا؟! ويذكر ابن القيم أيضاً أن السلف من الصحابة والتابعين كانوا يكرهون التسرع في الفتوة ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى.. فهل نكون كما هم؟؟ وعلى ما قال ابن القيم أوقع..