في الحلقة الأولى من «صناعة الفتوى»، يتحدث العلامة الشيخ الدكتور عبدالله بن بيه (رئيس المركز العالمي للترشيد والتجديد)، عن عقوبة من يتجرأ على الفتيا بغير علم، والمفتي المجتهد الذي أتلف شيئا بفتواه. يقول الدكتور بن بيه في بداية تطرقه إلى التجرؤ على الفتيا بغير علم، الفتوى لها شأن عظيم في الإسلام، فهي خلافة للنبي صلى الله عليه وسلم في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى، فبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم ولهذا ورد الوعيد. ففي حديث الدارمي عن عبيدالله بن جعفر مرسلا: (أجرؤكم على الفيتا أجرؤكم على النار)، وأخرج الدارمي والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من أفتى بفتيا من غير علم تثبت فإنما إثمه على من أفتاه)، وأخرج البيهقي عن مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال علي ما لم أقل فليتبوأ بيتا في جهنم، ومن أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد غيره فقد خانه)، سنن البيهقي الكبرى. وأخرج الشيخان عن ابن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). وأخرج سعيد بن منصور في سننه والدارمي والبيهقي في المدخل عن ابن عباس قال: (من أفتى بفتيا يعمى فيها كان إثمها عليه). وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي، أو رجل يضل الناس بغير علم، أو مصور يصور التماثيل). وفي أثر مرفوع ذكره أبو الفرج وغيره (من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض). تصدر الفتوى وحول من يتصدر الفتوى بحجة أنه لا يترك الناس في حيرة، قال الدكتور ابن بيه: كان المفتون الصالحون يخافون الفتوى فيستخيرون ويدعون قبل أن يفتوا. ذكر ابن بشكوال في كتابه الصلة في تاريخ أئمة الأندلس أن عبدالله بن عتاب كان يهاب الفتوى ويخاف عاقبتها في الآخرة ويقول: من يحسدني فيها جعله الله مفتيا، وإذ رغب في ثوابها وغبط بالأجر عليها يقول: وددت أني أنجو منها كفافا لا علي ولا لي. وقال أحمد بابا التنبكتي وهو يتحدث عن فترة مقامه بمراكش بعد محنته، (وأفتيت بها لفظا وكتبا بحيث لا تتوجه الفتوى فيها غالبا إلا إلي وعينت إلي مرارا فابتهلت إلى الله تعالى أن يصرفها عني). وكان ثابت البناني يقول إذا أفتى: قد جعلت رقبتي جسرا للناس. ثم ترك الفتوى. ذكر ذلك الزمخشري في ربيع الأبرار. وأخرج سعيد بن منصور في سننه البيهقي عن ابن مسعود قال: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون. وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون. الوصول للكمال وعن كيفية وصول المفتي إلى الكمال، يوضح الدكتور بن بيه: من شروط الكمال أن يكون ذا أناة وتؤدة متوخيا الوسطية بصيرا بالمصالح وعارفا بالواقع متطلعا إلى الكليات ومطلعا على الجزئيات موازنا بين المقاصد والوسائل والنصوص الخاصة، ذلك هو الفقيه المستبصر. وإن على الجهات المختصة أن تردع وتمنع غير الأهل من الفتوى، وأن ضمان المفتي قد يكون وجيها إذا أصر على الفتوى، وألحق الأذى بالناس، وكان لا يرجع إلى نص صريح بفهم صحيح أو إجماع، أو قياس عار عن المعارضة، أو دليل راجح وليس مرجوحا في حالة التعارض كما أشار إليه الأصوليون، وإذا عمل بالمرجوح فلا بد من توفر شروط العمل من مصلحة تبتغى أو مفسدة تنفى. إتلاف الفتوى وفي موضوع «إتلاف الفتوى»، يبين الدكتور بن بيه أن ضمن العلماء غير المجتهد إن انتصب أي ضامنا لما أتلفه من نفس ومال، قال الزرقاني في شرحه لخليل: لا شيء على مجتهد أتلف شيئا بفتواه ويضمن غيره إن انتصب وإلا فقولان وأغلظ الحاكم على غير المجتهد وإن أدبه فأهل إلا أن يكون تقدم له اشتغال فيسقط عنه الأدب وينهى عن الفتوى إذا لم يكن أهلا. قال ابن القيم: الفائدة الحادية والأربعون: إذا عمل المستفتي بفتيا مفت في إتلاف نفس أو مال ثم بان خطؤه قال أبو إسحاق الأسفرائني من الشافعية: يضمن المفتي إن كان أهلا للفتوى وخالف القاطع وإن لم يكن أهلا فلا ضمان عليه لأن المستفتي قصر في استفتائه وتقليده. ووافقه على ذلك أبو عبدالله بن حمدان في كتاب «آداب المفتي والمستفتي» له ولم أعرف هذا لأحد قبله من الأصحاب ثم حكى وجها آخر في تضمين من ليس بأهل قال: لأنه تصدى لما ليس له بأهل وغر من استفتاه بتصديه لذلك.