عمر المشاري الناصح لنفسه هو من يطلب السلامة لها، ويحذر مما يضرها أشدَّ الحذر، ومما يُطلب به السلامة دفع الفتيا إلى الغير ممن هو أهل لها، حتى ولو كان يعلم إجابة لما سئل عنه، ما دام يوجد من أهل العلم من يسدُّ مكانه، ذلك أنَّ شأن الفتيا عظيم وأمرها جسيم، ومن أفتى للناس فهو مسؤولٌ عن كل فتيا أفتاها، إن كانت صواباً سَلِمَ ونجا وأثيب، وإن كانت خطأ ولم يكن أهلا للاجتهاد فإنَّه يأثم عليها ويعاقب لتجرئه على الفتيا بلا علم. وقد جاء تحذير السلف الصالح من الفتيا بغير علم، فقد كانوا يتدافعونها ولو كانوا على علم بالإجابة؛ عن عبدالرحمن بن أبي ليلى؛ قال: أدركت عشرين ومئة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أراه - قال: في المسجد، فما كان منهم محدِّث إلا ودَّ أنَّ أخاه قد كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الفتيا». وقد كثر في زماننا المتسارعون إلى الإفتاء بواسطة قنوات البث المباشر وعبر شبكة التواصل العالمية (الإنترنت) ورأينا ذلك التهافت من قبل بعض الجهلة، ومن حدثاء الأسنان، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أكابرهم، فإذا جاء العلم من قبل أصاغرهم فذاك حين هلكوا» ومن أعظم الفتيا خطراً وأشدها وقعاً الإفتاء بالمسائل العامة التي تهم المسلمين جميعا، ويحصل مع اضطراب الفتيا فيها اضطرابٌ للناس، والجسارة على الفتيا تدل على قلة العلم، قال ابن عيينة رحمه الله: «أجسر الناس على الفتيا أقلُّهم علماً باختلاف العلماء». ومن منهج السلف رحمهم الله عدم تولي الفتيا حتى يشهد له العلماء بذلك، قال مالك بن أنس رحمه الله: «ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل يراني موضعاً لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك، فقلت له: يا أبا عبد الله لو نهوك؟ قال: كنت أنتهي، لا ينبغي لرجلٍ أن يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه»، فإذا كان أهلاً للفتيا فلا يمنعه حياء أو كبر من أن يقول للسائل: لا أدري إذا كان لا يعلم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «من أفتى بفتيا وهو يعمى عنها؛ كان إثمها عليه»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «إنَّ الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون» وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سُئل عن شيء فقال: لا أدري، فلمَّا ولَّى الرجل؛ نِعِمَّا قال عبدالله بن عمر؛ سُئل عمَّا لا يعلم فقال: لا علم لي به» وعن عقبة بن مسلم؛ قال: «صحبتُ ابن عمر رضي الله عنهما أربعة وثلاثين شهراً، فكان كثيراً ما يُسأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إليَّ فيقول: أتدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسراً إلى جهنَّم»، وقال سفيان: «أدركت العلماء والفقهاء يترادون المسائل يكرهون أن يجيبوا فيها، فإذا أُعفوا كان أحب إليهم» وقال أبونعيم: «ما رأيت عالماً قط أكثر قول لا أدري من مالك بن أنسٍ» وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: «كان أبي يستفتى، فيكثر أن يقول: لا أدري». هكذا كان السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يتدافعون الفتيا تدافع المتقين الذين يخشون الله فيما يفتونه للناس، ونحن بأمسِّ الحاجة إلى السير على ما ساروا عليه، بعدم الاستعجال في إصدار الفتاوى، والتمعن واستقصاء النظر في المسألة حتى تكون الفتيا صواباً، هذا لمن كان مخوَّلا بإفتاء الناس، أما غير المخوَّل بذلك فهو في سلامة وعافية من أن يتولى الإفتاء. أمر الفتيا عظيمٌ وشأنها خطير فلا تسارع إليها وادفعها إلى غيرك كما كان السلف يتدافعونها، ولا يمنعنك حياءٌ أن تقول لما لا تعلم لا أعلم، فلو سكت من لا يعلم أو قال: لا أعلم، لزال خلافٌ كثير.