الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. قد كان الناس في جاهلية جهلاء، وظلمة دهماء، لا تعرف ديناً ولا تنكر منكراً حتى منّ الله عزّ وجل برسالة محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وتركهم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك فأخرج الناس من الظلمات الى النور ومن الضلال إلى الهدى ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وهيأ الله له رجالا نصروه وعزروه ووقروه وحفظوا عنه هذا الدين ونقلوه للأمة كما هو فحفظ الله بهم الدين عن طريق الرجال الثقاة العدول عن مثلهم فجعل الله الاسناد من خصائص هذه الامة المحمدية كما قال ابن المبارك: لولا الاسناد لقال في الدين من شاء ما شاء وقال كذلك عندما سئل عن أربعة عشر ألف حديث وضعته الزنادقة قال: تعيش له الجهابذة . ومنذ بزوغ شمس الاسلام والصراع قائم بين الحق وأهل من المؤمنين وبين الباطل وأهله من المشركين، فأهل الباطل يسعون إلى تشويه سمعة الدين وإلى إخفاء حقائقه عن الناس فعمدوا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاموا باختلاق الاكاذيب والحكايات المصنوعة عليهم ليتوصلوا بذلك إلى إبطال هذا الدين وردِّ ما أتى به الكتاب والسنة لأن هؤلاء الصحابة هم الذين عرفنا الدين عن طريقهم ولولا الله ثم لولاهم لما عرفنا ما هو الدين، ومن هؤلاء الصحابة الذين أثيرت حولهم بعض الشبه واختلقت عليهم الأكاذيب الصحابي الجليل ثعلبة بن حاطب رضي الله عنه. وهذه القصة تتردد كثيراً على ألسنة الخطباء والوعاظ وذكرها كثير من المفسرين وهذه القصة هي كما يلي: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والعسكري في الأمثال والطبراني وابن مندة والبارودي وأبو نعيم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي قال جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ادعو الله أن يرزقني مالاً قال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خيرٌ لك من كثير لا تطيقه قال يارسول الله ادعو الله أن يرزقني مالاً قال: ويحك يا ثعلبة أما تحب أن تكون مثلي فلو شئت أن يسير ربي هذه الجبال معي ذهباً لسارت فقال: يارسول الله ادعو الله أن يرزقني مالاً، فوالله الذي بعثك بالحق إن آتاني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه قال: ويحك يا ثعلبة قليل تطيق شكره خيرٌ من كثيرٍ لا تطيقه قال يارسول الله ادعو الله تعالى فقال رسول الله: اللهم ارزقه مالاً قال: فاتخذ غنماً فنمت كما تنمو الدود حتى ضاقت بها المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشهدها بالليل، ثم نمت كما تنمو الدود فتنحى بها، فكان لا يشهد الصلاة لا بالليل ولا بالنهار، إلا من جمعة إلى جمعة مع رسول الله، ثم نمت كما تنمو الدود فضاق بها مكانه فتنحى بها فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الاخبار وفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه: فأخبروه أنه اشترى غنماً وأن المدينة ضاقت به وأخبروه خبره، فقال رسول الله ويح ثعلبة بن حاطب ويح ثعلبة بن حاطب، ثم قال إن الله تعالى أمر رسوله أن يأخذ الصدقات وأنزل (خذ من أموالهم صدقةً,,, الآية) فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين رجلا من جهينة ورجلاً من بني سلمة يأخذان الصدقات وكتب لهما اسنان الإبل والغنم كيف يأخذانها، ووجوهها وأمرهما أن يمرا على ثعلبة بن حاطب وبرجل من بني سليم فخرجا فمرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال أرياني كتابكما فنظر فيه فقال: ما هذه إلا جزية انطلقا حتى تفرغا ثم مرا إليّ فانطلقا وسمع بهما السلمي فاستقبلهما بخيار إبله فقالا: إنما عليك دون هذا فقال ما كنت أتقرب إلى الله إلا بخير مالي فقبل فلما مرا بثعلبة قال أرياني كتابكما فنظر فيه فقال ما هذه إلا جزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى قدما المدينة فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلمهما ويح ثعلبة بن حاطب ودعا للسلمي بالبركة وأنزل الله (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن,,,, الآية) سورة التوبة آية: 75 . فسمع بعض أقارب ثعلبة فأتى ثعلبة فقال ويحك يا ثعلبة أنزل الله فيك كذا وكذا,, قال فقدم ثعلبة على رسول الله فقال: يارسول الله هذه صدقة مالي فقال رسول الله: إن الله قد منعني أن أقبل منك فجعل يبكي ويحثي على رأسه فقال رسول الله هذا عملك بنفسك أمرتك فلم تطعني فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى. ثم أتى أبابكر فقال: يا أبا بكر اقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار فقال: ابوبكر لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلها، فلم يقبلها أبوبكر، ثم ولي عمر بن الخطاب فأتاه فقال: يا ابا حفص يا أمير المؤمنين اقبل مني صدقتي قال ويثقل عليه بالمهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر لم يقبلها رسول الله ولا أبوبكر فأقبلها أنا, فأبى ان يقبلها ثم ولي عثمان فسأله ان يقبل صدقته فقال لم يقبلها رسول الله ولا أبوبكر ولا عمر فأقبلها أنا فلم يقبلها. فهلك في خلافة عثمان وفيه نزلت (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات,,,,) الآية, أورده الشوكاني من رواية أبي أمامة الباهلي وابن عباس (1) وذكره ابن كثير وابن الجوزي وابن جرير وكثير من المفسرين ولم ينبه عليها إلا القليل منهم فهذه القصة المزعومة على صحابي جليل ضعيفة السند ومنكرة المتن. * وأما ضعف السند فلما يلي: باختصار قال ابن حزم بعد ان ساق السند وكلهم ضعفاء (2) أي رواة الحديث وتروى بثلاث روايات: 1 عن أبي أمامة الباهلي وهذا ضعيف جدا. 2 عن ابن عباس وهو اسناد ساقط بالمرّة، لأنه مسلسل بالعوفيين وهم ضعفاء كما هو معروف عن أئمة الحديث. 3 عن الحسن وهو ضعيف جداً وبالجملة فروايات القصة كلها معلّة وهي روايات لا تزيد القصة إلا وهنا على وهن (3) . * وأما بطلان متنها فلما يلي: قال ابن حزم قال الله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقنَّ,,, الآية)، سورة التوبة: آية 76 قال وهذه أيضا صفةٌ أوردها الله يعرفها كل من فعل ذلك من نفسه وليس فيها نص ولا دليل على ان صاحبها معروف بعينه على أنه قد روينا أثراً لا يصح وفيه أنها نزلت في ثعلبة بن حاطب وهذا باطل. ثم قال بعد أن ساق حديث القصة بسند وهذا باطل بلاشك لأن الله أمر بقبض زكوات أموال المسلمين وأمر عليه الصلاة والسلام عند موته ألا يبقى في جزيرة العرب دينان، فلا يخلو ثعلبة من أن يكون مسلماً ففرض على أبي بكر وعمر وعثمان قبض زكاته ولابد ولا فسحة في ذلك وإن كان كافراً ففرض ألا يقرّ في جزيرة العرب فسقط الاثر بذلك بلاشك (2) . وكذلك مما يدل على بطلانها عدم ورودها في كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن وحيث إن الحادثة أصبحت مشتهرة عميمة كما تقول القصة: وهو ذات شأن وأي شأن لأنها تتعلق بحكم شرعي وهو حكم مانعي الزكاة فلو كانت القصة وقعت لنقلت إلينا نقلاً صحيحاً وقد نقل ما هو دونها (4) ، وهذه القصة فيها نسف لمبدأ عظيم من مبادئ الإسلام وهو إجبار مانعي الزكاة على دفعها حتى لو أدى ذلك إلى حربهم (5) . وقد وقع في يدي كتاب لأحد المشايخ الفضلاء والعلماء النبلاء وهوكتاب بعنوان اللآلئ والجواهر في جوامع الخطب والمواعظ لفضيلة الشيخ محمد بن عبدالله بن معيذر وهو كتاب جيد في بابه ومفيد في موضوعه غير ان صاحبه عفا الله عنه عرّض في خطبة له عن مظاهر النفاق بالصحابي الجليل ثعلبة بن حاطب فقال: تأملوا عباد الله متعظين رجلا يقال له ثعلبة بن حاطب أظهر الاسلام وقال بلسانه ماليس في قلبه,,, ص:363 وقال كذلك في نفس الخطبة ,, فذلك الكاذب الأثيم قد جر الشقوة على نفسه يقصد ثعلبة بمخالفة فعله قوله ونقض عهده، وباء بغضب من الله ورسوله وحقت عليه كلمة العذاب,, ص:364. وقد سبق بيان الحق الواضح في هذه القصة المزعومة قبح الله من وضعها ولا شك ان أعمال البشر لا تخلو من النقص والخطأ بل هذه صفة ملازمة لبني البشر غير المعصوم صلى الله عليه وسلم وليس إقدامي على نقد كتاب لأحد المشايخ الفضلاء انتقاصاً لقدره ومنزلته أو أن الناقد أرفع قدراً وعلماً من هذا المنتقد ولكن عذري في هذا أنه من بيان الحق ومن النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه. الهوامش: 1 فتح القدير، للشوكاني 2/492. 2 المحلى، 13/153. 3 الشهاب الثاقب في الذب عن الصحابي الجليل/ ثعلبة بن حاطب، لسليم الهلالي، ص11 14 بتصرف. 4 ثعلبة بن حاطب، الصحابي المفترى عليه، عداب الجمش ص118. 5 المحكم المتين في اختصار القول المبين لمشهور حسن سلمان (بتصرف) ص:103. * للاستزادة يراجع قصص لا تثبت ليوسف العتيق.