أرقب لحظات الغروب.. شمس وضاءة يحفها نور يبعث في النفس شعورا غريبا لا أعرف كنهه.. أهو شعور بالفرح، أم هو شعور بالكآبة، والضيق والتبرم؟ إن هذا الغروب هو آخر غروب في رحلة العام.. إنه الغروب الأخير، وشمس الغد، ستلبس حلتها الجديدة إيذانا بعام جديد.. أتأمل لحظة الغروب وأنا في أرض جرداء، والصمت يكتنف الأرجاء، ولا محدث لي إلا همسات تنطلق من وجداني، وتفيض بها مشاعري، يا ترى بماذا تتحدث تلك المشاعر؟ وبماذا كانت تنطق؟ لقد كانت تقول لي: تأمل في صفحة الشمس، وخاطبها.. إنك حقا ستراها مرت على أناس يبكون وآخرون يضحكون.. مرت على قبور أهلها جيران لا يتزاورون، وعبرت على شرذمة ينوحون. ربّاه.. عام انصرم، وطويت صفحات أيامه.. أجوب الديار وأقطع القفار؛ لأرى فلانا أقام سرادق العزاء، وآخر أضاء شموع الفرح.. لأرى رضيعا يبكي وحوله الأهل يضحكون، وميتا صامتا.. ومَن حوله ينتحبون.. لأرى وجوها غشيتها الابتسامة.. وأخرى غشاها الكدر.. وحف جوانبها الضجر. عام مضى.. وأناس سادرون.. يلهون في طلب الحياة ويركضون.. هذا جنون لو وعوا معنى الجنون! أركبهم الهوى فهووا.. وصاحبوا الردى فأصبحوا من المتردية والنطيحة وما أكل السبع.. بحثوا عن السعادة وظنوا - كل الظن - أنها بمشاهدة البيض الحسان، وتشنيف الأسماع بمزامير الشيطان.. وجرّ الأرجل إلى أماكن اللهو والطغيان.. أعرضوا عن ذكر ربهم.. وفرطوا في جنب الله.. فقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة. عام مضى.. وأناس وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة.. كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون.. أناس إذا ذكر الله وحده وجلت قلوبهم.. أناس صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.. مضى عامهم، وطويت صفحات أيامهم.. وما عملوه سيجزون به، والله ذو الفضل العظيم. كلا الفريقين انصرم به العام، فأي الفريقين أهدى وأيهم أضل سبيلا؟! مضى عام، ونحن ما زلنا نظن أننا خلقنا لهوا ولعبا.. ولى عام، ونحن في غيابة العصيان نمرح.. وفي أوحال الذنوب نترنح.. ولى عام، وتصرمت قبله أعوام.. بكينا فيها على من بكينا.. واستبشرنا بمقدم من رأت عيناه الحياة.. وبين الموت والحياة صارعنا أيام الكدر.. وأيام الأنس. مضى عام.. فهل فكرنا فيه في إخوان لنا يقضون نحبهم في أصقاع المعمورة بين جائع ذي مسغبة.. ومظلوم قتله أعداء الدين ظلما وعدوانا؟! مضى عام.. وأتى عام، فهل سنجدّد العزم مع بارينا.. ونعلن التوب.. ونغسل الحوب.. ونقول لأنفسنا: هذا هو الأوب؟!