في هذه الأيام يتذكر الناس هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، ويتذكرون معها دروساً وأحداثاً مرتبطة بحياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبدعوة الحق التي رعاها في مكة وحملها معه إلى المدينة. لقد كان- صلى الله عليه وسلم- على الحق ويعرف ذلك معرفة اليقين بل وكان كفار مكة ومعاندو الدعوة منهم يعرفون حقيقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصدق رسالته وما جاء به، وباطل ما كانوا عليه من الشرك وعبادتهم لأوثان صنعوها بأنفسهم، ومع ذلك استماتوا في الدفاع عنها وأراقوا دماءهم وأنفقوا أموالهم في سبيل باطل يعرفون بطلانه، ولكنه التكبر والغطرسة والغرور وبطر الحق، وكم في زماننا هذا اليوم من يحمل باطلاً ويدافع عنه بكل ما أوتي من قوة، مع معرفته الحقة بأنه على باطل. كان- صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه على القبائل قبل الهجرة ليجد ملجأ يؤيه هو وأصحابه وما حملوه من دعوة ودين حق، ورغم ضعفه- صلى الله عليه وسلم- وقلة الأسباب المادية الظاهرة كما يرى الناس فلم يكن يقبل ما يحد الدعوة أو يربطها بوطن أو قوم معينين، فقد قبل بنو بكر بن وائل وكانوا في الأطراف الشمالية الشرقية للجزيرة العربية، أن يؤوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويجيروه ويحموه من كافة العرب، أما الفرس فقد اعتذروا وقالوا لا طاقة لنا بهم، فقال- صلى الله عليه وسلم- إذاً لستم أصحابي، فلم يكن ليقبل شرطاً يحد من دعوته ويقيد رسالة رب العالمين إلى العالمين التي حملها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.. ولذلك فإن الأنصار رضوان الله عليهم حينما بايعوا الرسول- صلى الله عليه وسلم- في العقبة لم يشترطوا مثل تلك الشروط فاستجاب لهم وقبل الهجرة معهم إلى المدينة بعد أن أعلنوا مناصرتهم التامة له، لقد كان- صلى الله عليه وسلم- يرنو ببصره لبناء دولة الإسلام ويخطط لها، على ما وعده الله سبحانه وتعالى من نصرته وإظهار دعوته، فأخذ يخفي خبره عن قريش ويسعى للترتيب الدقيق للرحلة، ويتخذ كل الأسباب المادية لنجاح الرحلة وإخفاء أمرها، مع أنه- صلى الله عليه وسلم- كان أكثر الناس توكلاً على الله ومع ذلك فهو يؤكد لأمته في ذلك التوكل على العمل بالأسباب الدنيوية في وقت واحد لا غنى لأحدهما عن الآخر، سعت قريش لمنع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الخروج من مكة ورتبت أقوياءها من الفتيان الأشداء لقتله عند داره، ولكن الله نجاه من شرهم وخرج الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومعه صاحبه أبو بكر الصديق- رضوان الله عليه- آخذين طريق المدينة، وارتعبت قريش وخرجت تطارد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعلت الجوائز لمن يأتي به حياً أو ميتاً، أجل أنه الإرهاب بعينه يستعمله أصحاب الباطل ضد حامل الحق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد تسابق الفرسان للحاق بالرسول- صلى الله عليه وسلم- وقد أريق دمه وسمح لهم بقتله أو أسره بل أعطوا الجوائز لذلك، وهنا تحدث المعجزة، يصل سراقة بن مالك الجعشمي إلى منطقة قريبة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويشاهده ويحاول اللحاق به فتحدث المعجزة، تسيخ قدما فرس سراقة في الأرض مرة وأخرى، حتى يتأكد أنه ممنوع بقدرة الله تعالى، من اللحاق بالرسول- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، فينادينهما سراقة، ويطلب التحدث معهما، فيحادثه الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويسلم على أرجح الآراء، ويكتب له أبو بكر- رضي الله عنه- بأمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أماناً، مع أن الرسول هو الخائف والمطارد من قبل القوم ومع ذلك فإن سراقة يطلب الأمان لنفسه، وبكتاب من الرسول- صلى الله عليه وسلم- وتحدث معجزة أخرى في تلك الساعة: حيث يخبر الرسول- صلى الله عليه وسلم- سراقة بأنه سيلبس سواري كسرى، ومن كسرى يا ترى؟.. أنه أعظم ملوك الأرض، وهذا المطارد الشريد الذي جعل زعماء مكة الجوائز لمن يأتي به حياً أو ميتاً يتحدث عن أعظم ملوك الأرض وعن فتح المسلمين لدياره وغنيمتهم أعز ما يملك من كنوز، إن الإنسان ليعجز عن وصف الحادثة إذا علم زمن الحدث ووقت الضعف الظاهر للناس في تلك اللحظة، ولكن صدق الله العظيم {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}. كانت هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصلاً بين الحق والباطل، إعلاناً لقيام دولة الإسلام، لحاقاً بركب المؤمنين وتجميعاً لهم في المدينة، كراهية للظلم تحركاً مضاداً له وعدم خضوع للذلة والصغار والإهانة، كانت الهجرة فوق هذا كله إعلاناً لقيام دولة الحق، ووضعاً لبذرتها الأولى في المدينة والتي شبت عن الطوق بعد ذلك فبسطت سلطانها على مختلف أصقاع الأرض ولا تزال الأرض تتأثر بأحدثها إلى اليوم الحاضر، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كانت تغليباً للمبدأ والدين على حب البلد والوطن وعلى القوم إذا كانوا من أتباع الكفار، وعلى كل المقاييس المادية في سبيل رضا الله- سبحانه وتعالى- ولا تذكر هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا وتذكر معها صحبة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه- الذي ذكر له هذا الموقف في كتابه العزيز في قوله تعالى: { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا }. أجل لقد كان أبو بكر الصديق صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الرحلة وفي الغار ولم يصحبه من الأمة غيره، وبهذا فإن للصديق واجب المحبة على الأمة برغم أنف الكارهين لذلك، كان إيمانه- رضي الله عنه- بفضل الصحبة في الهجرة على سائر أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-. كانت الهجرة إلى المدينة وكان في المدينة يهود هاجروا إليها منذ زمن انتظاراً لوصول الرسول- صلى الله عليه وسلم- إليها لأن عندهم علماً من الكتاب مما أخبرهم به أنبياؤهم أن هذا المكان هو مهاجر النبي الأمي، وما أن رأوا الرسول - صلى الله عليه وسلم- حتى عرفوه حق المعرفة {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} ولكنهم أرادوا أن يصرفوا الأمور كما يشاؤون واعترضوا على مشيئة الله احتجوا أن لا يكون النبي منهم فتكبروا وعصوا وطغوا ولم يؤمنوا به رغم معرفتهم له، في المدينة الأنصار الذين {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}الذين كان لهم مواقف مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أدركوا فيها الحق واتبعوه وانقادوا له، وهم القائلون لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك لا نقول لك كما قالت اليهود لموسى :{ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكن نقول لك: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون).. كانت هذه روح الأنصار منذ هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليهم ولذلك أصبح الرسول- صلى الله عليه وسلم- في المدينة وعنده أنصاره وفي الوقت نفسه عنده أعداؤه وأعداء الله من اليهود الذين كانوا معوقين لقيام دعوته ودولته- صلى الله عليه وسلم- وعنده جماعة من المنافقين الذين أذوه. كان أول عمل قام به- صلى الله عليه وسلم- لبناء دولته هو بناء مسجد قباء، نعم بناء الدولة عند رسول الله بدأ ببناء المسجد إنه التلازم الحقيقي بين الدين والدنيا، العمل للآخرة والعمل للدنيا صنوان في حياة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- السياسة الأولى عنده وفي دولته تنطلق من المسجد كانت الهجرة وكان - صلى الله عليه وسلم- إماماً في الصلاة وفي الوقت نفسه قائداً في السياسة لم يشهد تاريخ البشرية له مثيلاً على الإطلاق بل وربي أعظم سياسي وقواد العالم. الخلفاء الراشدون- رضوان الله عليهم- كوّنوا ونظموا أعظم دولة عرفها تاريخ البشرية على الإطلاق كان فيها كل مظاهر التقدم والعدل والعطاء والمساواة حتى أن غير المسلمين فضلوهم على بني جلدتهم وإخوانهم في دينهم، ورضوا بحكم المسلمين وأحبوهم خلال تلك الفترة لما رأوه من رحمتهم وعدلهم حتى مع أعدائهم. سعى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ وصوله إلى المدينة إلى إيجاد التلاحم بين المهاجرين والأنصار المؤاخاة التي كانت في أروع صورها، أقوام يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وقوم آخرون لا يسألون الناس إلحافاً. كان عام الهجرة عاماً لدى الأمة له مكانته، ولذلك فإن الصحابة، في زمن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهم - حينما أرادوا التميز عن الغير فاتخذوا تاريخ المسلمين من هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتميزوا بذلك عن سائر الأمم، ومع الأسف الشديد فإنك لا تكاد تجد ذكراً للتاريخ الهجري في العديد من بلاد العالم الإسلامي في الوقت الذي نرى فيه دولة إسرائيل الناشئة تحيي تاريخها وتقويمها العبري وتفرضه في كل المؤسسات داخل دولتها بل وتحاول نشره على مستوى العالم، أليست أمتنا هي الأولى بالتميز والمحافظة على ذلك التميز؟ إني لأعجب من التقليد مهما كانت الأعذار. سعدت المدينة وأهلها بقدوم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حيث أصبح لها مكانتها بهذا التكريم وتميزت عن مدن الأرض بكونها عاصمة الرسول- صلى الله عليه وسلم- التي تنورت بنور الإسلام وبوجوده - صلى الله عليه وسلم- فيها، أخذ المؤمنون يفدون من كل مكان تاركين الأهل والأوطان ليلحقوا بركب الإيمان مهاجرين إلى الله ورسوله، كان منهم الفقير والغني وذو الحاجة، كانوا كلهم محل عطف وعناية سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- كان يكلف المتعلم بتدريس الجاهل والرامي بتدريب غيره والفارس بتجهيز نفسه والفقير بالعمل والاستغناء عن الآخرين والغني بالانفاق على إخوانه، كانت الهجرة وكان الجو كله إيماناً وعملاً وإيثاراً وتقديماً وفداءً!. كانت قريش تحس بالخطر من هذا المجتمع المؤمن الناشيء ولذلك أخذت تدبر المكايد مع يهود ضد الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين معه وأخذت تمنع من في مكة من المؤمنين من الهجرة واللحاق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهكذا فإن مغادرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لمكة لم يتوقف معها أذى قريش له ولأصحابه، بل استمر الأذى من قريش لحامل الدعوة وأتباعه من المؤمنين وهكذا الكفرة والإلحاد ودعاته لا يتركون الفئة المؤمنة وإن تركوهم كما أن الفئة المؤمنة بالمقابل تعمل على إزالة الكفر وأهله وإن كانوا أقرب الأقربين ولذلك فالكل يتوجس من الآخر، وهكذا فإن الصراع بين هاتين الطائفتين أزلي لا يتوقف مهما كان الظاهر غير ذلك ومهما تطور العالم وكثرت خبراته أو مخترعاته أو أدواته، ودروس الهجرة أكبر من أن تعرض في هذه العجالة لكنه الشعوب بالحبيب- صلى الله عليه وسلم- وتذكر مواقفه يوم الهجرة تدفعنا للاستفادة منها باستمرار، نسأل الله أن يعز الإسلام وأهله وأن يجعلنا من حملة دعوة الحق هو وحده المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.