ولد الشاعر - أبو ماضي - في قرية المحيدثة من لبنان سنة 1890م وهاجر إلى أمريكا وعاش هناك بقية حياته، وقال الشعر، وأحدث تجديداً في الكلمة الشعرية مع الاحتفاظ بالطابع الشعري (الوزن والقافية) ولم ينس رغم بعده عن وطنه عراقته وأصالته واعتزازه به، يظهر ذلك جليا في شعره، مناديا شبابه، ووصف الجداول والطبيعة الساحرة في أبيات عذبة حلوة من غير خفاء في المعنى، ولقد توفي في نيويورك سنة 1957م، وله خمسة دواوين هي - تذكار الماضي - ديوان إيليا أبو ماضي - الجداول - والخمائل - وديوانه الخامس - تبر وتراب - الذي نحن بصدد إلقاء بصيص من ضوء عليه. يقع هذا الديوان في 232 صفحة من الحجم المتوسط وطبع من عام 1962م إلى 67م خمس مرات، وهذا يدلنا على سرعة نفاده في الأسواق، وأنه وجد آذانا صاغية أحبته فاقتنته لعذوبة لفظه وسهولته، وكثرة خيالاته وتصوراته، لقد احتوى على تسع وخمسين قصيدة، طرق جميع أغراض الشعر من وصف وغزل ورثاء ومدح إلا الهجاء فلم أقرأ له بيتا واحدا يهجو فيه، ولكن الطابع لهذا الديوان الوصف والرثاء، أما الوصف فلأنه عاش في لبنان وسط الازهار وعند الانهار وفوق الثلوج مع الاستنشاق من ذلك الهواء العليل فإن للطبيعة تاثيرا على الانسان، ولا شك، وانتقل كذلك إلى أمريكا ورأى العجب العجاب فلابد أن يصف ما رأى من أبيات شعرية عذبة، أما الرثاء فلأنه عاش مغتربا بقية عمره فكل يوم يأتيه خبر وفاة صديق وشاعر من وطنه الاصلي فلا بد حينئذ أن يرثيه، ويذكر حالة حياته حينما يصله الخبر وذكر فضائل من وارى التراب. ونجد أن الشاعر في أول قصيدة له في الديوان تحت عنوان - وطن النجوم يتذكر وطنه ويحن إليه وإلى رفاقه الذين عاش معهم في صباه، فنراه يقول: وطن النجوم.. أنا هنا حدق.. أتذكر من أنا؟ ألمحت في الماضي البعيد فتى غريراً أرعنا جذلان يمرح في حقولك كالنسيم مدندنا إلى أن يقول وهو لا ينسى أيام كان صغيراً يتسلق الأشجار، ثم ينفي أن هذا التسلق ليس ضجراً بالوطن بل مرح وفرح فيقول: يتسلق الأشجار لا ضجرا يحس ولا ونى ويعود بالأغصان يبريها سيوفا أو قنا ويخوض في وحل الشتا متهللا متيمنا ثم أحس الشاعر وهو في عزبته أن الوطن عتب عليه وتصور كأنه يسأله هل نسيتنا يا إيليا؟ أم هل فتنتك أمريكا بجمالها؟ فينفي ذلك نفيا قاطعا ومؤكدا انه لن ينساه بل يردد أنه جزء لا يتجزأ من وطنه، وإن غابت عينه عنه فليس القلب ينساه. أنا من مياهك قطرة فاضت جداول من سنا أنا من ترابك ذرة ماجت كواكب من منى أنا من طيورك بلبل غنى بمجدك فاغتنى ثم في قصيدة له أخرى يحن حنينا أوسع من حنينه الأول أنه يحن إلى وطنه الأكبر - الشام - مفاخراً بما فيها من جمال، وما لها في سابق الدهر من صولات وجولات فيقول تحت عنوان (تحية الشام): حي الشام مهندا وكتابا والغوطة الخضراء والمحرابا ليست قبابا ما رأيت وإنما عزم تمرد فاستطال قبابا فالثم بروحك أرضها تلثم عصورا للعلى سكنت حصى وترابا ثم في آخر القصيدة وحين وقوع الاستعمار على الشام وخاصة سوريا نراه عاش مدافعا بلسانه مطالبا قومه بالعمل، وترك الكلام، ويقول لهم كونوا صخرة قوي لا تزحزحها العواصف ولا تخشى الموت في سبيل العلا فنراه يقول: ما كان يوسف واحدا بل موكبا للنور غلغل في الشموس فغابا هذا اشتياق الكرى تحت الثرى كي لا يرى في جلق الاغرابا اني لأزهى بالفتى وأحبه يهوى الحياة مشقة وصعابا ويضوع عطرا كلما شد الأسى بيديه يعرك قلبه الوثابا ويسيل ماء ان حواه فدفد وإذا طواه الليل شع شهابا إلى أن يقول متعجبا من قومه ومناديا إياهم بالاستفاقة من نومهم، وكأنه يخاطبنا اليوم ويرى حالنا فيقول: عجبا لقومي والعدو ببابهم كيف استطابوا اللهو والألعابا وتخاذلت أسيافهم عن سحقه في حين كان النصر منهم قابا تركوا الحسام الى الكلام تعللا يا سيف ليتك ما وجدت قرابا ولولا طول القصيدة لأوردتها كلها لما فيها من حث على الجهاد في أبيات حلوة عذبة تستنهض الهمم وتذكر بالماضي. ونجد أن الشاعر عنده قوة التخيل، وأعني القوة الشديدة والتصوير البديع حتى كأن القارئ أو السامع إليه كأنه ينظر الى وصف ما يقوله من شدة تأثيره على سامعه ألست معي في قصيدة موكب التراب، وذلك بأنه في يوم من أيام الصيف الشديد الحر كان الشاعر جالسا مع بعض أصحاب له أمام داره، فهبت ريح شديدة أثارت الغبار وعقدته في الفضاء فنظم القصيدة التالية: من اين جئت؟ وكيف عشت ببابي يا موكب الاجيال والاحقاب أمن القبور؟ فكيف من حلوا بها أهناك ذو الم ذو تطراب؟ أمررت بالأعشاب في تلك الربى وذكرت أنك كنت في الأعشاب إلى أن يقول: وذهبت في عرض السماء كخيمة رفعت بلا عمد ولا أطناب قال الصحاب لي: استتروا تراكضوا للذعر يعتصمون بالأبواب ونجد أن الشاعر قد وصف ما راق له في أمريكا وهو خاصة لا يعشق في وصفه إلا الطبيعة، ففي قصيدة تحت عنوان - أيلول الشاعر - من قصيدة يصف بها المناظر الرائعة التي مر بها في طريقه الى مونتريال: الحسن حولك في الوهاد وفي الذرى فانظر ألست ترى الجمال كما أرى (أيلول) يمشي في الحقول وفي الربى والأرض في أيلول أحسن منظرا لا تحسب الأنهار ماء راقصا هذي أغانيه استحالت أنهرا ونجد أن الشاعر يحب الكرم والإنفاق وعدم حبس المال، وأن حبسه لا فائدة فيه، وأنك ما دمت حابسا له فأنت عبد له. ففي قصيدة له تحت عنوان - في قلبك الله: لا تحسب المجد ما عيناك أبصرتا أو ما ملكت هو السلطان والجاه المال مولاك ما أمسكته طمعا فأنفقته في الخير تصبح أنت مولاه ما دام قلبك فيه رحمة لأخ عان فأنت امرؤ في قلبك الله أما الجزء الأخير من ديوانه فهو يتفجع على محبيه وأصدقائه صاغها في قصائد الرثاء لهم، ولقد رثى في ديوانه هذا - خليل مطران - أمين الريحاني - رزق حداد - يعقوب رفائيل - ندرة حداد - نسيب عريضة، فتعال نسمع قصيدته في رثاء صديقه الدكتور رزق حداد تحت عنوان - يا قائد القوم: يا أيها الشعر أسعفني فارثيه ويا دمع أعينيني فابكيه بحثت لي عن معز يوم مصرعه فلم أجد غير محزون أعزيه وما سالت امرأ فيما تضجعه الا وجاوب - اني من محبيه كأنما كل إنسان أضاع أخا أو انطوت فجأة دنيا أمانيه وللشاعر قصائد قالها في عدة حفلات أقيمت له في أمريكا، ويختم الشاعر ديوانه بمناداة الشباب لأنهم عماد الأمم وعلى أكتافهم تقع المسؤولية والخير معقود عليهم، فاسمعه وهو يقول تحت عنوان - الشباب أبو المعجزات: سلام عليكم رجال الوفاء وألف سلام على الوافيات ويا فرح القلب بالناشئين ففي هؤلاء جمال الحياة هم الزهر في الأرض إذ لا زهور وشهب إذ الشهب مستخفيات هذه عجالة لاستعراض ديوان تبر وتراب لشاعر المهجر إيليا أبو ماضي وأعترف بأنها ليست دراسة وافية ولكن لعلي قد أتيت ببعض من كل.