بعض الشعر: بغداد في خطرٍ ومصر رهينة / وغداً تنال يد المطامع جلّقا وأيضاً كلما فكرت في حاضرنا / عاقني اليأس من المستقبل هذا الشعر عمره مئة سنة أو أقل، ومع ذلك يبدو الشاعر وكأنه يتحدث عن أحوال العرب اليوم. وكنتُ اخترت من مكتبتي لسبب غامض ديوان إيليا أبو ماضي للقراءة في الطائرة، مع انني قرأته مرات في السابق، وفوجئت بأن شعره يحكي عنا اليوم أكثر مما يحكي عن بلادنا قبل الحرب العالمية الأولى العظمى وبعدها. البيت الأول من قصيدة بعنوان"دموع وشكوى"قالها وهو مهاجر الى نيويورك، وضمت أيضاً الأبيات التالية: وطن أردناه على حب العلى / فأبى سوى ان يستكين الى الشقا وطن يضيق الحر ذرعاً عنده / وتراه بالأحرار ذرعاً أضيقا لا يرتضي دين الإله موفقا / بين القلوب ويرتضيه مفرقا أما البيت الثاني فمن قصيدة بعنوان"بنت سورية"ضمّت أيضاً: نحن في الجهل عبيد للهوى / ومع الجهل عبيد الأمم قد مشى الغرب على هام السهى / ومشينا في الحضيض الاسفل عندما هاجر إيليا أبو ماضي الى مصر، ومنها الى أميركا، كان لبنان وسورية بلداً واحداً، لذلك تراه يكتب شعراً عن هذا البلد أو ذاك، أو عن الاثنين معاً، وهو في قصيدة بعنوان"يا بلادي"يتغزل بالبلدين وينهي مقطعات خماسية بعجز من نوع"يا بلادي عليك ألف تحية"وأيضاً"لا حياء في الحب والوطنية"، ثم يكرر"عاش لبنان ولتعش سورية"، ثم يقول:"ايها القوم أنقذوا سورية". ويبدو ان مشكلات سورية قديمة، وليست وقفاً على المأزق الحالي، فالشاعر يقول من قصيدة صدر أول بيت فيها""لمن الديار تفوح فيها الشمأل"مما يدل على مآزق سبقت الاستقلال وتفاقمت بعده. وهو يقول: إن أبكي سورية فكم قبلي بكى / أعشى منازل قومه والأخطل وبما ان مصير لبنان وسورية واحد فهو يقول في قصيدة بعنوان"أمة تفنى وأنتم تلعبون": كلكم يا قوم في البلوى سواء لا أرى في الرزء لبناناً وشام في ربى لبنان قومي الأصفياء وبارض الشام أحبابي الكرام. الأمة لا تزال تفنى ونحن لا نزال نلعب، غير انه وطن ليس لنا سواه، وإيليا أبو ماضي لم ينسَ وطنه على رغم المصائب، وهو في نيويورك فكتب في"أمنية المهاجر"يقول: أيها السائل عن من أنا / أنا كالشمس الى الشرق انتسابي لستُ أشكو إن شكا غيري النوى / غربة الأجسام ليست باغتراب أنا في نيويورك بالجسم / وبالروح في الشرق على تلك الهضاب والشرق له ليس لبنان وسورية وحدهما، فهو لا ينسى مصر وأيامه فيها، ويجمع"مصر والشآم"في قصيدة فيقول:"أقطر الشام حياك الغمام" ويكمل: وما مصر التي ملكت فؤادي / ولكن أهلها قوم كرام ودادهم على الايام باقٍ / وجارهم عزيز لا يضام وفي قصيدة أخرى: لكن مصر وما نفسي بناسية / مليكة الشرق ذات النيل والهرم في فقية كالنجوم الزهر أوجههم / ما فيهم غير مطبوع على الكرم غير ان الواقع يغلب الحنين، وهو يقول: تعس الحظ وهل أتعس من / شاعر في أمة محتضرة إيليا أبو ماضي يتحدث عن العراق وكأنه يصف ما يحدث اليوم، والى درجة ان يذكر"العلوج"فهو يقول: ملك العلوج أمورهم ومتاعهم / حتى سوامهم وحتى الانية واخجلة العربي من أجداده / صارت عبيدهم الطغام موالية وقصيدته"عصر الرشيد"تبكي العراق وكأن الشاعر يرى الارهاب والنهب والتدمير، وهو يقول: إيه ابا المأمون ذكرك آبد / في الأرض مثل الشامخات الراسية أتراك تعلم ان دارك بدّلت / من صوت اسحق بصوت الناعية أتَراك تعلم ان ما اثّلته / قد ضيعته الأنفس المتلاهية دار السلام تحية من شاعر / حسدت مدامعه عليك قوافية فعليك تذهب كل نفس حرة / ولمثل خطبك تستعار الباكية يكفي بكاء، وأريد ان أختتم بشيء أقرب الى القلب، طالما ان الزاوية اليوم شعر. لابن سيناء قصيدة مشهورة في النفس مطلعها: هبطت اليك من المحل الأرفع / ورقاء ذات تعزز وتمنع وبعده: محجوبة عن كل مقلة ناظر / وهي التي سفرت ولم تتبرقع وختامها: فكأنها برق تألق بالحمى / ثم انطوى فكأنه لم يلمع وقد عارض هذه القصيدة العينية كثيرون فقال أحمد شوقي: ضمّي قناعك يا سعاد أو ارفعي / هذي المحاسن ما خلقن لبرقع وآخرها: بان الأحبة يوم بَيْنك كلّهم / فذهبت بالماضي وبالمتوقع غير انني أجد ان معارضة إيليا أبو ماضي أكثر وقعاً فهو يقول في مطلعها: أنا لستُ بالحسناء أول مولع / هي مطمع الدنيا كما هي مطمعي ويقول في آخرها: وعلمتُ حين العلم لا يجدي الفتى / ان التي ضيّعتها كانت معي وأترك القراء مع بيت جميل: ويزيد في شوقي إليها أنها / طالصوت لم يسفر ولم يتقنّع والشعر السابق كله على مذهب أفلاطون الذي جعل النفس روحاً عند الخالق هبطت ودخلت جسم الانسان. والفلاسفة جعلوها فرساً مجنحة فقدت جناحيها وهي تدخل جسم الانسان والشعراء جاروهم خيالاً.