لا يستطيع إنسان يتمتع بذرة واحدة من العقل والقدرة على التمييز أن يقول بأن ثمة ما يبرر الأعمال الإرهابية التي وقعت في بلاد الحرمين الشريفين في الآونة الأخيرة، وأزهقت مئات الأرواح البريئة، وروّعت الآمنين، وأهدرت الدماء المعصومة. ولا يستطيع أيضاً إنسانٌ منصفٌ سويٌ أن يقدم دليلاً واحداً على مشروعية مثل هذه الأعمال التخريبية من الناحية الشرعية، ويعطي ولو قدراً بسيطاً من المصداقية لمرتكبي هذه الأعمال الإجرامية التي تنافي كل تعاليم الإسلام ومبادئه. ولا يستطيع أحدٌ كائن من كان أن يربط بين الإسلام وهذه الأعمال الإجرامية، حتى وإن ارتكبها ناس مسلمون من جلدتنا، ممن جهلوا حقيقة الدين، وانساقوا وراء بهرج فتاوى يروجها أشخاص من غير المؤهلين للفتوى، ولاسيما أن بلدنا المبارك يزخر بالعلماء الراسخين الذين يصدر عن أقوالهم وفتاويهم المسلمون في كل مكان، والذين يتمنى كثير من طلاب العلم خارج هذه البلاد لو استطاعوا العكوف عند ركبهم، طلب للعلم منهم. فهل يستطيع من ارتكبوا هذه الأعمال الإجرامية أو من يتعاطف معهم - إن وجد - أن يقدموا دليلاً واحداً من الشرع، أو مبرراً منطقياً لهذه الأعمال؟ وهل يستطيع هؤلاء الذين أهدروا دماء الأطفال والنساء أن يثبتوا أن ما اقترفته أيديهم يمت إلى المنهج الشرعي أو أخلاق الإسلام ومُثله بصلة؟ إن عدم وجود أية مبررات، أو بالأصح عدم وجود مبرر شرعي لمثل هذه العمليات المخزية، لهو خير دليل على أن الإفساد والمفسدين، والإجرام والمجرمين لا دين لهم ولا جنسية، وأن الأحداث الإرهابية التي وقعت في المملكة أبشع بكثير عن تلك التي وقعت في الولاياتالمتحدة، أو إسبانيا، أو أي مكان آخر في العالم، لأن المملكة لم تقم باحتلال أي بلد عربي أو إسلامي، ولم تشترك في إزهاق أرواح مسلمين، بل على العكس من ذلك، هي الدولة الوحيدة - تقريباً - التي تصل مساعداتها إلى جميع المسلمين في كل أصقاع الدنيا، وهي التي تتعرض من أجل ذلك إلى هجوم إعلامي غربي صهيوني، يتهمها بتمويل الإرهاب والإرهابيين، فالتطرف والتشدد مرض يصيب أتباع كل الديانات من كل الجنسيات والأعراق، وليس قصراً على الإسلام فقط، كما يحاول البعض ترويج العلاقة بين الإسلام والإرهاب. والأحداث الدالة على أن الإرهاب لا دين له ولا وطن كثيرة ومتعددة، كما أن الإرهاب ليس طارئاً على الحياة البشرية، فقد عانت منه الأمم والشعوب في كل العصور، ولعلنا نذكر من أمثلة التنظيمات الإرهابية غير الإسلامية: الألوية الحمراء في إيطاليا، والجيش الأحمر في ألمانيا، والحركة الانفصالية للباسك في إسبانيا، وغيرها كثير في أمريكا اللاتينية، هذا بخلاف الأعمال الإرهابية التي ترتكبها جماعات أو أفراد لتحقيق أهداف ذات طابع سياسي، والتنظيمات والبؤر الإرهابية التي ارتكبت الأعمال الآثمة في المملكة، لا تختلف عن غيرها من التنظيمات الإرهابية في أي مكان آخر في العالم، وإن اختلفت الشعارات التي ترفعها، أو حاولت التستر برداء الدين. وبراءة الإسلام من الإجرام، أو ما يفعله المجرمون المتسترون بالإسلام أو غيره من الديانات واضحة وضوح الشمس، لا ينكرها إلا من كان في عينه رمد، أو في قلبه مرض، أو صاحب هوىً أو غرض، بل إن الإسلام هو أعلى الأديان صوتاً ضد الغلو والتطرف، وكل ما من شأنه الإخلال بالأمن أو ترويع الآمنين، فما بالك بإهدار الدماء التي حرّمها الله إلا بالحق، وما بالك أن تقع هذه الجرائم المشينة في بلاد الحرمين الشريفين. إن الأدلة الشرعية التي تثبت رفض الإسلام للإجرام والإفساد، ومناهضته له، هي الأدلة نفسها التي تكشف الأهداف الخبيثة لمرتكبي الأعمال الإرهابية زيف دعاويهم لتبرير هذه الأعمال، أو كسب التعاطف معها، وهي كثيرة وقاطعة، ولا يمكن الالتفاف عليها بإساءة التفسير أو التأويل أو إنزالها في غير مواضعها، ومن هذه الأدلة: قوله تعالى في محكم الكتاب العزيز: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وقوله تعالى:{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ }، فماذا يقول مرتكبو الأعمال الإرهابية في قتل المسلمين الأبرياء في بلادنا؟ وفي السُنّة المطهرة ما يترجم، ويفسر، ويفصل الهدي القرآني في تحريم الإجرام والإفساد بكل صوره وأشكاله، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، قال ابن عمر - رضي الله عنهما: (من ورطات الأمور التي لا مخرج منها لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله)، وفي الحديث الشريف: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركاً أو يقتل مؤمناً متعمداً)، ويقول صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة: (ما أطيبك وما أطيب ريحك، ما أعظمك وما أعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم حرمة منك، ماله ودمه وأن تظن به إلا خيراً). فهل يبقى بعد هذه النصوص الصريحة من القرآن الكريم والسنّة المطهرة في حماية دماء المسلمين، وجهاً لمرتكبي هذه الأعمال الإرهابية التي أهدرت دماء مئات المسلمين والمعاهدين المستأمنين دون وجه حق، بعدما قرن الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة إهدار دماء المسلم بالشرك بالله، وقال بأن حرمة دماء وأموال المسلمين أعظم عند الله من حرمة البيت الحرام والكعبة المشرفة؟ وهل يبقى لمن ينخدعون بدعاوى المجرمين الباغين، وشعاراتهم الزائفة حجة في التعاطف معهم، أو محاولة العثور على مبرر لذلك؟ والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)، كذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار). إن النصوص السابقة، وغيرها الكثير مما لا مجال لذكره هنا، تؤكد بما لا يدع أدنى مجال للشك على مخالفة هذه الأعمال الإجرامية لتعاليم الإسلام، وأن مرتكبيها موعودون باللعنة والعذاب في الآخرة، وأنهم خارجون عن جماعة المسلمين، حيث تؤكد هذه النصوص تأكيداً صريحاً على عدة أمور منها: - تحريم قتل المسلم بغير حق، وأنه من أكبر الكبائر. - أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله قريناً للشرك في عدم مغفرة الله لمن فعله. - أن من قتل مسلماً متعمداً توعده الله بالغضب واللعنة والعذاب الأليم والخلود في النار. - أن الدم الحرام هو أول المظالم التي تقضى بين العباد وحصول الخزي يوم القيامة لمن قتل مسلماً بغير حق. - أن قتل المسلم بغير حق من أعظم الورطات التي لا مخرج منها. - عظم حرمة المسلم دمه وماله حتى انه أعظم من حرمة الكعبة، بل إن زوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم. - أن الإعانة أو الإشادة أو تسهيل قتل رجل مسلم اشتراك في قتله بالإثم. هذا كله في قتل المسلم، فكيف إذا اقترن ذلك بتفجير الممتلكات، وإهدار الأموال والثروات، والإخلال بالأمن، وترويع الآمنين من المسلمين، والانتحار، وغيرها من كبائر الذنوب التي لا يقدم عليها إلا من طمس الله على بصيرته، وزين له الشيطان سوء عمله. وإذا كان البعض يقدم الجهل بالدين، ونقص العلم الشرعي سبباً لمثل هذه الأعمال التخريبية، والتي غالباً ما يرتكبها شباب صغار السن، غُرر بهم من قبل مَنْ ضلوا عن الصراط المستقيم، ونهج الإسلام، وأضلوا غيرهم، نقول: إن مثل هذا العذر، أو السبب لم يعد مقبولاً بدرجة كبيرة بعدما توالت بيانات هيئة كبار العلماء في بيان حرمة هذه الأعمال الإجرامية، وما يترتب عليها من مفاسد، ومع ما أوردته هذه البيانات من أدلة شرعية لا مجال للالتفاف عليها، ليس بالنسبة لمرتكبي هذه الأعمال فقط، بل وأيضاً من يتستر عليهم أو يتعاطف معهم. يضاف إلى أسباب عدم العذر بالجهل في ارتكاب هذه الأعمال الإرهابية سبب آخر، وهو رجوع عدد من أصحاب الآراء والفتاوى التي يستند إليها الإرهابيون والغلاة عن هذه الفتاوى، وإعلان هذا الرجوع عبر وسائل الإعلام المختلفة، مع مطالبتهم أعضاء التنظيمات والجماعات المسلحة إلى نبذ العنف، وإلقاء السلاح، مع التأكيد على عدم مشروعية أي عمل فيه إهدار لدماء وأموال المسلمين، لكن يبدو أن هؤلاء المجرمون لا يولون للدين أهمية كبيرة، وأن ثمة محركات ودوافع أخرى تدفعهم لارتكاب مثل هذه الأعمال التخريبية، على الرغم من وضوح حرمتها، وما فيها من مفاسد. وإن كان مرتكبو جرائم التفجير يجهلون القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة، ويعانون من أمية القراءة والكتابة، فلم يقرؤوا بيانات وأقوال العلماء الراسخين المشهود لهم بالعلم، فأنى لهم بأن ينصبوا أنفسهم قضاة يحكمون بتكفير المجتمع، ويعطون أنفسهم الحق في الخروج على ولاة الأمر، وترويع الآمنين، وإزهاق الأرواح؟ فإذا كانوا يستندون بزعمهم إلى بعض آيات القرآن، ويفسرونها بما يبرر أعمالهم، نورد لهم ما اتفق عليه علماء الإسلام، ليس في المملكة فقط، بل في أنحاء العالم الإسلامي، من أن القرآن الكريم لا يوجد به آية واحدة تحرض على الإفساد والتخريب، بما في ذلك قوله تعالى في الآية الكريمة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، حيث اتفق العلماء والمفسرون على أن المقصود من قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ}، هو الردع لمنع العدوان على المسلمين، وليس تحريض المسلمين على العدوان على الغير، والإسلام بهذا سبق إلى إرساء نظرية (الردع) لمنع العدوان وضمان استقرار الأمن في المجتمع. يضاف لذلك أن العمليات التفجيرية والتخريبية، والمخططات التي نجحت الأجهزة الأمنية بفضل من الله وتوفيقه في إحباطها قبل تنفيذها، تؤكد أن منفذي هذه العمليات، والمتورطين فيها، يمتلكون على الأقل الحد الأدنى من التعليم، والقدرة على التخطيط، والتفكير، والتنظيم بدرجة لا يمكن معها وصفهم بالأمية، وفي هذا دليل آخر على أن المسألة برمتها لا علاقة لها بالدين حتى وإن تسترت به. ومع تراجع الجهل بالدين، ونصوص القرآن الكريم والسنّة القاطعة في تحريم عمليات التفجير والقتل والتخريب التي يمارسها هؤلاء البغاة، يبرز السؤال الضروري حول دوافع وأهداف العمليات التفجيرية ومنفذوها على أرض المملكة، وهل تختلف عن أهداف ودوافع العمليات التفجيرية المماثلة التي تقع في أماكن أخرى من العالم؟ بالطبع لا يمكن القول بأن دافع هذه الفئة الضالة هو تطبيق الشريعة الإسلامية، والأصح أنهم يتسترون بالشريعة لكسب رأي الشعوب المسلمة الساذجة، فالجاهل بالشريعة لا يتحمس لتطبيقها أو الدفاع عنها، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإن مثل هذه الدعاوى قد تجد مصداقية عندما تقال في بلدان لا تطبق الشريعة، أو تطبقها بصورة جزئية، بينما المملكة تحكم الشرع في كل أمورها، وينص على ذلك دستور البلاد منذ تأسيسها، ويحرص ولاة الأمر - حفظهم الله - على الالتزام بذلك في جميع أعمالهم، ويسترشدون بآراء العلماء في كل ما يعن من قضايا تتطلب معرفة رأي الشرع. ولعل التزام المملكة بتطبيق شريعة الإسلام، وطبيعة الشعب السعودي المتدين، هي ما أغرت هؤلاء المتطرفين بالتستر بالدين، ورفع شعارات دينية مثل الجهاد وغيرها لكسب قدر من التعاطف، أو اجتذاب أكبر عدد ممكن من المؤيدين لأفعالهم، في استغلال خبيث لمكانة الدين في نفوس أبناء المملكة، وحتى لو رفع مرتكبو العمليات الشريعة الإسلامية شعار تطبيق الشريعة، والسعي لذلك، فهذا مردود عليهم، وهل تطبق الشريعة بالسلاح والنار وإزهاق الأرواح وإهدار الدماء المسلمة وتكفير المجتمع؟ وأين ذلك من مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، بل وأين ذلك من مسلك الهادي البشير - عليه الصلاة والسلام - في التعامل مع غير المسلمين؟ ولنا في تجربة الجماعات الإسلامية في مصر، ورجوعها عن اعتماد العنف، والمواجهة المسلحة كوسيلة لتطبيق الشريعة، دليل آخر على خطأ هذا الأسلوب، وحرمته، نظراً لإخلاله بقاعدة المصالح والمفاسد، فما يترتب عليه من ضرر للأمة أكبر بكثير مما يتوهم فيه من مصالح.. ولاسيما في هذا العصر الذي يتربص فيه أعداء الإسلام لنا، ويتحينون الفرص لإلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام لتحقيق أهداف سياسية لا تخفى على ذي لب. ويمكن القول بأن الأعمال الإجرامية التي يرتكبها هؤلاء البغاة والمفسدون المحسوبون على الإسلام، تصب في مصلحة أعداء الإسلام في الخارج من اليهود والصهاينة وغيرهم، إلى الدرجة التي تدفعنا إلى القول بأن هؤلاء البغاة المفسدين أداة لتنفيذ مخططات القوى المعادية للإسلام في تشويه صورة الشريعة السمحة من خلال أعمال إجرامية تقع في بلاد الحرمين الشريفين، يدعم ذلك ما تم ضبطه من أسلحة ومتفجرات وأجهزة بحوزة من تم توقيفهم من أعضاء هذه التنظيمات أو التي تم استخدامها بالفعل، والتي يتعذر الحصول عليها، وتجهيزها دون مساعدة جهات خارجية تملك القدرة على ذلك. وهذا الاتفاق الضمني أو الفعلي بين أهداف منفذي العمليات الإجرامية، وأهداف أعداء الإسلام، ليس غائباً عن وعي إدراك ولاة أمر المملكة - حفظهم الله - الذين أعلنوا أن مثل هذه العمليات الإجرامية لن تزيدهم إلا استمساكاً بشرع الله الصحيح، وأن مسؤولية الدفاع عن وجه الإسلام المشرق تحتم على الجميع مواجهة هذه الشرذمة الضالة من المخربين، حتى يتم اجتثاثها من جذورها، وهو ما عبّر عنه صراحة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمين، وسمو النائب الثاني - حفظهم الله - في أكثر من مناسبة. ولا شك أن الموقف الراسخ لولاة الأمر في مواجهة الإرهاب بكل صوره دفاعاً عن صورة الإسلام والتفاف أبناء الوطن بأسره حول قيادته الرشيدة في هذه المعركة، هو ما اغتاظ منه منفذو العمليات الإجرامية، فعملوا على استهداف رجال الأمن في العملية الأخيرة الجبانة التي استهدفت مبنى الإدارة العامة للمرور بحي الوشم بمدينة الرياض، في إعلان عن الانتقال إلى مرحلة الحرب ضد الدولة، والمجتمع السعودي عموماً - على حد تعبير الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية عقب تفقده لموقع الحادث - مشيراً إلى أن استهداف رجال الأمن هو نوع من الإفلاس لدى الخلايا الإجرامية، بالإضافة إلى تأكيد سموه على وجود تعبئة خارجية لهذه الخلايا، غير مستبعد أن أعضاء هذه الخلايا يحصلون على دعم مادي خارجي لتنفيذ أعمالهم الإجرامية. وعلى الرغم مما خلفته الأعمال التخريبية الأخيرة من آثار دمار ودماء، وما ترتب عليها من أضرار مادية، ومنح أعداء الإسلام فرصة أكبر لإطلاق حملاتهم المغرضة في اتجاه إلصاق تهمة الإرهاب بالدين الحنيف، إلا أنها أسقطت ورقة التوت التي كانت تخفي (عورة) الإرهاب والإرهابيين، الذين يعبثون بأمن بلادنا المباركة، فلم تعد شعاراتهم المضللة تنطلي على أحد، فمشاهد دماء الأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء والدمار، صدمت كل ذي فطرة سليمة، وأدرك جسامة الجرم، ولاسيما أن جميع الضحايا من المسلمين الذين لا يمكن التشكيك في إسلامهم أو الطعن فيه.. فهل تبقى ثمة دعاوى أخرى أو أسباب يمكن أن يستند إليها أعضاء الخلايا الإجرامية لتبرير جرائمهم في حق أبناء وطنهم؟ وهل يجدون من يصدقهم؟ قد يقول قائل: إن ثمة خلافاً سياسياً أو مخالفة شرعية عانى منها أعضاء هذه الخلايا الإجرامية، قد دفعتهم لما ارتكبوه من أعمال تخريبية، وربما يقول آخر: إن الفقر والبطالة والفراغ هو البيئة التي تفرز الإرهاب، وربما يكون في الأمر - على ما يبدو للبعض - بعض الصحة أو المنطق، لكننا في المقابل نقول: لقد عاش آباؤنا وأجدادنا فقراء، فلم يكن الفقر يوماً دافعاً لإهدار ثروات المجتمع، أو إزهاق أرواح الناس، كما أن من أبناء وطننا فقراء كثيرين، لكنهم لم يسقطوا في مستنقع الإجرام. وحتى دعوى وجود خلاف سياسي أو وقوع مخالفات شرعية إن حدث، فهو لا يبرر إهدار الدماء، وترويع أمن المجتمع، والخروج على ولاة الأمر، وفي سيرة الإمام أحمد بن حنبل أروع الصور، فقد سجن وعُذّب ولكنه رفض أن يخرج على الحاكم، واكتفى له بالدعاء، وتوجيه النصح، وحتى شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي مات سجيناً، رفض الخروج على ولي الأمر، واستعاذ بالله أن يشق عصا الأمة، واختار الصبر، حتى لا يكون سبباً في وقوع فتنة أشد وأخطر وأعظم. هل بقي شيء يمكن أن يتذرع به الإرهابيون لتبرير جرائمهم؟ وهل يمكن أن يوجد بيننا من يتعاطف معهم أو يتستر عليهم؟ وما هي مسؤوليتنا جميعاً إزاء هذه الفئة الضالة؟ وهل بات هناك مجال لتصديق الشعارات الدينية التي يتستر خلفها هؤلاء المجرمون؟ إن نجاحنا في الإجابة عن هذه الأسئلة، يعني نجاحنا في إيجاد الآليات المجتمعية لمواجهة كل من يريد الشرَّ بديننا ووطننا، فالتفجيرات الإجرامية كشفت بما لا يدع مجالاً للشك أو الجدل فساد هذه الفئة الضالة وانحرافها، وكذب ما تدعيه، وأن الهدف الحقيقي من إجرامهم هو إلحاق الضرر والأذى بالإسلام، وأهله في كل مكان، وهذا الضرر يمكن رصد بعض مظاهره فيما يلي: 1- الإساءة إلى صورة الإسلام وتصويره كما لو أنه دين دموي يدعو للقتل والعنف. 2- تنفير الناس من الإسلام وتعطيل جهود الدعوة إليه. 3- إزهاق الأرواح وإهدار الدماء المعصومة، وما يترتب على ذلك من آلام وأحزان وتدمير للقوى البشرية المسلمة. 4- إهدار الأموال والثروات التي تعد من دعائم قوة المجتمع المسلم. 5- الإخلال بالأمن وإشاعة الخوف والفوضى. بالإضافة إلى محاربة الله - عزّ وجلّ- بمخالفة أوامره وإتيان ما نهى عنه من قتل للأنفس، وإهدار للدماء، فما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً؟ قال تعالى في هؤلاء: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْض}. ومسؤوليتنا في مواجهة هؤلاء المفسدين يجب أن تنطلق أولاً من واجبنا كمسلمين في الدفاع عن صورة ديننا، وسماحة شريعتنا التي جاء بها خاتم الأنبياء رحمة للعالمين، ضد كل من يحاول تشويهها عن جهل أو عمد، أو مدفوعاً من قبل أعداء الإسلام، والعلم بأن نجاحنا في هذه المواجهة يهدم جهود الدعوة إلى الله بين غير المسلمين. كما يجب أن نضع نصب أعيننا أن ما تحقق من مكتسبات في بلادنا، وما تنعم به من أمن ورخاء، نعمة يحسدنا عليها الأصدقاء قبل الأعداء، ويتمنون زوالها، ولا ريب أن كل عاقل يدرك أن الأعمال الإرهابية تنافي مقاصد الشرع في حفظ الضرورات الخمس (الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال)، وهي أعمال غير مقبولة لا عقلاً ولا نقلاً، لما يترتب عليها من قطع للحرث والنسل، وهدر للأموال والأنفس وترويع الآمنين. وفي ضوء هذا الوعي، تصبح مسؤولية مواجهة خطر الإرهاب مسؤولية جماعية، بل ويصح القول أنها مسؤولية الأسرة الدولية بأسرها، إلا أن تضارب مصالح وسياسات المجتمع الدولي، أضر بهذه المسؤولية، وأعطى الإرهاب مساحات كبيرة للحركة والوجود، وفي بلادنا لا يمكن حصر مسؤولية مواجهة هذا الخطر في رجال الأمن، أو الأجهزة الأمنية فقط، فالأمن في الإسلام واجب شرعي، ويجب أن تتضافر وتتكامل الجهود لحمايته، وإذا كان رجال الأمن بحكم عملهم يخوضون المواجهة المسلحة في تعقب المجرمين المطلوبين، ويقدمون أرواحهم في أداء الواجب دفاعاً عن عقيدتهم وأمن بلادهم، فإن كل شرائح المجتمع تتحمل مسؤولية المواجهة بدرجة لا تقل أهمية، في استئصال بذور الفتنة، بعدما تأكد للجميع أن هؤلاء المجرمين يعانون فساد الفطرة، وتشتعل قلوبهم بالحقد والضغينة على الإسلام وأهله، وأنهم يعملون في خدمة أعداء الإسلام، ويحققون مصالحهم في الإساءة إلى شريعتنا الغراء، شاؤوا أم أبوا، علموا أو لم يعلموا. وهذه المسؤولية الجماعية هي ما أشار إليها سمو الأمير نايف بن عبد العزيز بقوله: علينا جميعاً أن نكون رجال أمن ويداً واحدة للمحافظة على عقيدتنا، وسلامة وطننا، وأنه حان الوقت لكي يقوم كل بجهده، ويأتي في نفس الاتجاه ما قاله سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز عقب تفجيرات (الوشم): إن الشعب السعودي كله هو المستهدف من هذه التفجيرات وليس رجال الأمن فقط، لذا فكل مواطن مطالب بحماية العقيدة، والثبات عليها، وحماية بلادنا من كل غاشم سواء في الداخل أو الخارج. ومسؤولية المواجهة تبدأ من الأسرة لتربية الأبناء تربية إسلامية صحيحة، تحميهم من الانسياق أو التأثر بأية دعاوى مضللة، والمؤسسات التعليمية تتحمل جانباً أكبر في هذه المواجهة، كذلك وسائل الإعلام لكشف الوجه القبيح للإرهاب، وإذا كان العلماء قد قالوا كلمتهم في بيان رفض الشريعة للإرهاب مراراً، فإنهم مطالبون بالاستمرار في تفنيد هذه الدعاوى، وتوجيه خطابهم للشباب على وجه الخصوص في أماكن وجودهم في المدارس، والجامعات، والأندية الرياضية، والمفكرون والأكاديميون والمثقفون كل له دور في استراتيجية المواجهة، والمواطن العادي والمقيم في بلادنا مسؤول أيضاً، وأول درجات هذه المسؤولية هي رفض هذه الأعمال الإجرامية، باليد واللسان والقلب، كما أن لفرسان المنابر خطباء الجمعة دوراً كبيراً لا يقل عن غيرهم، بل إن مسؤوليتهم كبيرة وعظيمة في تناول هذه الأحداث الإجرامية المشينة، وفضحها وتوجيه الناس إلى المخاطر الجسام للغلو والتطرف، كما أن للإعلام مسؤولية في نشر تلك الخطب المنبرية وأحاديث الدعاة المتمكنين عبر القنوات الإعلامية مقروءة ومرئية ومسموعة، فالمسؤولية ليست قاصرة على فئة دون أخرى. إننا مطالبون جميعاً بأن نفتح عيوننا بشكل أكبر، لنكشف تحركات هؤلاء المفسدين، ونفسد مخططاتهم، وأن نبلغ عمّن نعرفه منهم، حتى ولو كانوا أبناءنا أو إخواننا أو أزواجنا أو آباءنا، علينا أن نوقف كرة الثلج هذه قبل أن تكبر، فلا نجد أمناً ولا أماناً، ولا ديناً ولا حياة، إلا حياة الغاب. علينا أن نزيد من تمسكنا بديننا بشكل صحيح، وأن نقوي صلتنا بعلمائنا، وثقتنا في ولاة أمرنا، وأن نعلنها صريحة أنه لا مساومة على ديننا، أو وطننا، أو أمتنا، أو طاعتنا لولاة أمورنا، والله ناصرنا.