إن من يتأمل أحكام الشريعة الإسلامية الغراء في كل المناحي الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والعسكرية، وغيرها، يجد أن من أبرز صفاتها السماحة والتيسير، والوسطية، والاعتدال، والرحمة ، وأن ذلك كله من أكبر مقاصد الإسلام، كما قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة: 185، وقال -تعالى-: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحج: 78، وقال -تعالى-: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) البقرة: 286. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" يقول العلماء: الحنيفية هي ضد الشرك، والسماحة ضد الحرج والمشقة، ويقول الرسول? في حديث آخ : " إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه". والمتأمل في التاريخ الإسلامي منذ فجر الإسلام يتضح له أن من أهم الصفات التي أدت إلى انتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها هي ما يتصف به من العدل والسماحة، والوسطية، والتراحم؛ لأن هذه الصفات كلها من الأمور الفطرية التي فطر الله عليها الناس جميعاً، لأن حقيقة السماحة هي: التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، والوسطية بهذا المعنى هي من كمال الأمة الإسلامية، وقد امتدحها الله -تعالى- بهذا الوصف الكريم، فقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) البقرة(143).ولاشك أننا -في زمننا هذا- إذا أردنا نشر الإسلام، والدعوة إلى الله تعالى فإن الواجب علينا أن نرجع إلى سماحة الإسلام، وعدله، ورحمته، ووسطيته، في جميع أحوالنا، ونطبقها تطبيقاً عملياً، لنكون قدوة وأسوة حسنة، وأن نبرز هذه المعاني الجليلة، والآداب الإسلامية الرفيعة، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. ومن خلال ما تقدم يظهر لنا السبب في حرص أعداء الإسلام على الادعاء الكاذب بأن الإسلام انتشر بالعنف والسيف، وأنه دين التشدد والقوة والإرهاب، والاستدلال على ذلك بما تفعله بعض الجماعات المنتسبة إلى الإسلام، من أفعال القتل، والتنكيل، والإجرام، والعنف، والبطش، وتصوير ذلك، ونشره على أوسع نطاق؛ ليقولوا للعالم: إن هذا هو الدين الإسلامي، وانظروا ماذا سيحل بكم، إن انتشر هذا الدين، وأصبح مهيمناً على العالم، فسيتحول العالم إلى فوضى، وقتل، وتشريد، واستعباد، وأخذ للجزية، وغير ذلك، باسم الجهاد الإسلامي. ومما يساعد على ذلك، ويقوي من انتشاره وتصديقه في الغرب، جهل أكثر الغربيين بالإسلام، وعدم معرفتهم بأصوله، ولا قواعده، ولا مقاصده، ولا مبادئه، ولا أحكامه؛ لأنهم يتلقون معارفهم وتصوراتهم عن الإسلام، من وسائل الإعلام التي يسيطر عليها اليهود، وأعداء الإسلام، ويبثون من خلالها كل ما يسيء إلى الإسلام، ويشوه صورته، وإلا لو كلفوا أنفسهم دراسة الإسلام من مصادره الأصلية من الكتاب والسنة لتغيرت نظرتهم إلى الإسلام، ولدخلوا في دين الله أفواجا، ولاشك أن هذا من أكبر وجوه تقصير المسلمين في تبليغ رسالة الإسلام على الوجه الصحيح، والتفريط في القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى. ولو درسوا الإسلام من مصادره لعلموا أن للجهاد في الإسلام شروطاً وضوابط ، وأحكاماً، لا تتوفر في الجماعات التي تقول: إنها تجاهد في سبيل الله، وأن ماتقوم به من أعمال، لا تتفق مع أحكام الجهاد المبينة في الفقه الإسلامي. وهذا يجرنا إلى أن نوجه كلمة إلى الذين يحرضون الشباب المسلم المتحمس على التوجه إلى بعض المواطن التي يحصل فيها النزاع، واقتتال داخلي، ويفتونهم بأن ذلك من الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الإسلام، ونصرة الحق إلى غير ذلك، مع عدم توفر شروط الجهاد وأركانه، مما يعد تغريراً بشباب الأمة، وإلقاء بهم إلى التهلكة، وإحراقاً لقلوب أمهات أولئك الشباب وآبائهم، فهؤلاء الشباب المغرر بهم بين حالتين: إما أن يقتلوا في البلاد أو يسجنوا، وإما أن يعودوا، وقد تشربت نفوسهم أفكاراً منحرفة، وغلوا في الدين، مما يجعلهم خطراً على الوطن والبلاد والأمة.ولو درسوا الواقع دراسة منصفة لعلموا أن الأدلة على أن الإرهاب لا دين له، ولا وطن كثيرة ومتعددة، كما أن الإرهاب ليس طارئاً على الحياة البشرية، فقد عانت منه الأمم والشعوب في كل العصور، ولعلنا نذكر من أمثلة التنظيمات الإرهابية غير الإسلامية: الألوية الحمراء في إيطاليا، والجيش الأحمر في ألمانيا، والحركة الانفصالية للباسك في أسبانيا، وغيرها كثير في أمريكا اللاتينية، هذا بخلاف الأعمال الإرهابية التي ترتكبها جماعات أو أفراد لتحقيق أهداف ذات طابع سياسي، والتنظيمات والبؤر الإرهابية التي ارتكبت الأعمال الآثمة في المملكة، لا تختلف عن غيرها من التنظيمات الإرهابية في أي مكان آخر في العالم، وإن اختلفت الشعارات التي ترفعها، أو حاولت التستر برداء الدين.وبراءة الإسلام من الإجرام، أو ما يفعله المجرمون المتسترون بالإسلام أو غيره من الديانات واضحة وضوح الشمس، لا ينكرها إلا من كان في عينه رمد، أو في قلبه مرض، أو كان صاحب هوىً أو غرض، بل إن الإسلام هو أعلى الأديان صوتاً ضد الغلو والتطرف، وكل ما من شأنه الإخلال بالأمن أو ترويع الآمنين، فما بالك بإهدار الدماء التي حرمها الله إلا بالحق؟ وما بالك أن تقع هذه الجرائم المشينة في بلاد الحرمين الشريفين؟. إن الأدلة الشرعية التي تثبت رفض الإسلام للإجرام والإفساد، ومناهضته له، هي الأدلة نفسها التي تكشف الأهداف الخبيثة لمرتكبي الأعمال الإرهابية وزيف دعاويهم لتبرير هذه الأعمال، أو كسب التعاطف معها، وهي أدلة كثيرة وقاطعة، ولا يمكن الالتفاف عليها بإساءة التفسير، أو التأويل، أو إنزالها في غير مواضعها، ومن هذه الأدلة: قوله تعالى في محكم الكتاب العزيز:(ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له، عذاباً عظيماً) النساء: 93 . وقوله تعالى : (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) الإسراء: 33 ، فماذا يقول مرتكبو الأعمال الإرهابية في قتل المسلمين الأبرياء في بلادنا؟. وفي السُنة المطهرة ما يترجم، ويفسر، ويفصل الهدي القرآني في تحريم الإجرام والإفساد بكل صوره وأشكاله، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: " اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ... " ، وقال ? أيضاً: " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء"، وقال: "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه مالم يصب دماً حراماً"، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "من ورطات الأمور التي لا مخرج منها لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله"، وفي الحديث الشريف: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركاً، أو يقتل مؤمناً متعمداً"، ويقول وهو يطوف بالكعبة: " ما أطيبك، وما أطيب ريحك ! ما أعظمك وما أعظم حرمتك ! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم حرمة منك، ماله ودمه، وأن تظن به إلا خيراً". فهل يبقى بعد هذه النصوص الصريحة من القرآن الكريم والسنة المطهرة في حماية دماء المسلمين، وجهاً لمرتكبي هذه الأعمال الإرهابية التي أهدرت دماء مئات المسلمين والمعاهدين المستأمنين دون وجه حق، بعدما قرن الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة إهدار دماء المسلم بالشرك بالله، وقال: إن حرمة دماء وأموال المسلمين أعظم عند الله من حرمة البيت الحرام والكعبة المشرفة. وهل يبقى لمن ينخدعون بدعاوى المجرمين الباغين، وشعاراتهم الزائفة حجة في التعاطف معهم، أو محاولة العثور على مبرر لذلك ؟ والرسول الكريم يقول: "من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً"، كذلك قوله في الحديث الصحيح: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار". إن النصوص السابقة، وغيرها الكثير مما لا مجال لذكره هنا، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على مخالفة هذه الأعمال الإجرامية لتعاليم الإسلام، وأن مرتكبيها موعودون باللعنة والعذاب في الآخرة، وأنهم خارجون عن جماعة المسلمين، حيث تؤكد هذه النصوص تأكيداً صريحاً على عدة أمور منها: تحريم قتل المسلم بغير حق، وأنه من أكبر الكبائر. أن النبي جعله قريناً للشرك في عدم مغفرة الله لمن فعله. أن من قتل مسلماً متعمداً توعده الله بالغضب واللعنة والعذاب الأليم والخلود في النار. أن الدم الحرام هو أول المظالم التي تقضى بين العباد، وحصول الخزي يوم القيامة لمن قتل مسلماً بغير حق. أن قتل المسلم بغير حق من أعظم الورطات التي لا مخرج منها. عظم حرمة المسلم دمه وماله، حتى إنه أعظم من حرمة الكعبة، بل إن زوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم. أن الإعانة أو الإشادة أو تسهيل قتل رجل مسلم اشتراك في قتله بالإثم. هذا كله في قتل المسلم ، فكيف إذا اقترن ذلك بتفجير الممتلكات، وإهدار الأموال والثروات، والإخلال بالأمن، وترويع الآمنين من المسلمين، والانتحار، وغيرها من كبائر الذنوب التي لا يقدم عليها إلا من طمس الله على بصيرته، وزين له الشيطان سوء عمله. ولأجل ذلك، ولأجل مخالفة الإرهاب لأصول الدين الإسلامي، ومناقضته لمقاصده السامية، فإن المملكة العربية السعودية -وهي دولة الإسلام، ومحكمة شرع الله- تأتي في مقدمة دول العالم في محاربة التطرف والإرهاب، ويدل على ذلك أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- عرض للعالم فكرة إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب قبل عشر سنوات، وتم تبنيها بالإجماع من المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب الذي عقد في الرياض عام 2005م كما تم تبنيها بالإجماع من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2006 م، وساهمت المملكة بعشرة ملايين دولار لإطلاق المركز، ووقعت اتفاقاً في هذا الشأن مع الأممالمتحدة عام 2011م. وفي هذا العام 2014م يأمر خادم الحرمين الشريفين بتقديم مائة مليون دولار لدعم جهود المركز في مكافحة الإرهاب، ومحاربة الجريمة، وهو ما كان محل إشادة من الأمين العام للأمم المتحدة وغيره من المسؤولين في المنظمات العالمية. وإذا كانت المملكة قد أدت دوراً كبيراً في مكافحة الإرهاب، فإن مسؤوليتنا في مواجهة الإرهاب والمفسدين يجب أن تنطلق أولاً من واجبنا في الدفاع عن صورة ديننا، وسماحة شريعتنا التي جاء بها خاتم الأنبياء رحمة للعالمين، ضد كل من يحاول تشويهها عن جهل أو عمد، أو كان مدفوعاً من قبل أعداء الإسلام، والعلم بأن نجاحنا في هذه المواجهة يدعم جهود الدعوة إلى الله بين غير المسلمين. كما يجب أن نضع نصب أعيننا أن ما تحقق من مكتسبات في بلادنا، وما تنعم به من أمن ورخاء، ونعمة يحسدنا عليها الأعداء، ويتمنون زوالها، ولا ريب أن كل عاقل يدرك أن الأعمال الإرهابية تنافي مقاصد الشرع في حفظ الضرورات الخمس: "الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال"، وهي أعمال غير مقبولة لا عقلاً ولا نقلاً، لما يترتب عليها من قطع للحرث والنسل، وهدر للأموال والأنفس وترويع الآمنين. وفي ضوء هذا الوعي، تصبح مسؤولية مواجهة خطر الإرهاب مسؤولية جماعية، بل ويصح القول بأنها مسؤولية الأسرة الدولية بأسرها، إلا أن تضارب مصالح وتباين سياسات المجتمع الدولي، أضر بهذه المسؤولية، وأعطى الإرهاب مساحات كبيرة للحركة والتوسع والانتشار، وفي المملكة العربية السعودية لا يمكن حصر مسؤولية مواجهة هذا الخطر في رجال الأمن، أو الأجهزة الأمنية فقط، فالأمن في الإسلام واجب شرعي، ويجب أن تتضافر وتتكامل الجهود لحمايته، وإذا كان رجال الأمن بحكم عملهم يخوضون المواجهة المسلحة في تعقب المجرمين المطلوبين، ويقدمون أرواحهم في أداء الواجب دفاعاً عن عقيدتهم وأمن بلادهم، فإن كل شرائح المجتمع تتحمل مسؤولية المواجهة بدرجة لا تقل أهمية، في استئصال بذور الفتنة، بعدما تأكد للجميع أن هؤلاء المجرمين يعانون من فساد الفطرة، وتشتعل قلوبهم بالحقد والضغينة على الإسلام وأهله، وأنهم يعملون في خدمة أعداء الإسلام، ويحققون مصالحهم في الإساءة إلى شريعتنا الغراء، شاؤوا أم أبوا، علموا أو لم يعلموا. ويأتي في مقدمة المؤسسات المعنية بمحاربة الإرهاب: المؤسسات الشرعية، بحكم أنها المعنية ببيان حكم الشرع في الإرهاب، وتبصير الشباب بأمور دينهم، وتوعيتهم، وإرشادهم، وتقويم فكرهم بحجة العلم، وبرهان العقل، وأن تضع خططاً دائمة مستمرة لمحاربة الإرهاب، ومعالجة أسبابه ودوافعه، والوقاية من الوقوع فيه، فالوقاية خير من العلاج، كما ينبغي أن ينبغي أن يكون هناك تنسيق للجهود بين المؤسسات الشرعية، وتعاون بينها في صد هذا الخطر الداهم. [email protected]