لقد أتيحت لي الفرصة للاطلاع على كتابات وانطباعات عدد من مثقفي الانتلجنسيا السعودية يعبرون عن آرائهم وتطلعاتهم حول تأسيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني.. وقد لمست أن الكثير من هذه الانطباعات تعكس ابتهاجاً وفرحاً وتصفيقاً لمجرد الإعلان عن التأسيس، وكأن هذا المركز اصبح غاية بحد ذاته.. وليس وسيلة كما يراه ولي الأمر حفظه الله كما أن البعض كان يراه «هايد بارك» سعودياً.. وهذا في حد ذاته إجحاف بجوهر موضوع الحوار وتأسيس مركز خاص به. وفي نظري الشخصي ان هناك أموراً استراتيجية ينبغي ان تكون نصب أعيننا عندما نفكر وندرس ونتمعن في تشكلات الحوار في المجتمع السعودي.. وأرى أن من المهم التفكير من منظور استراتيجي شامل إلى قضية ومبدأ الحوار في مجتمعنا.. وفيما يلي بعض المرتكزات الأساسية التي ينبغي أن تكون حاضرة في إدارة المرحلة القادمة من حوارنا الوطني. 1 - الحوار لا ينبغي أن يكون هدفاً بذاته، بل يجب أن يكون وسيلة نمتطيها لتحقيق اهدافنا الوطنية والاستراتيجية لبلادنا، في ظل ظروف ومتغيرات المنطقة والعالم. وعندما يكون الحوار هدفاً بذاته، فنصبح نلوك ونهضم ما نقوله ونسمعه دون أن تكون هناك افرازات مؤسسية لمحتوى واتجاهات الحوار الوطني.. ويصبح الحوار بهذا الشكل مثل جعجعة خطباء الهايد بارك ظهر كل يوم احد في مدينة الحرية أو الفوضى - لندن. 2 - ينبغي ألا يكون هدف الحوار هو التنفيس عن مشاعر الناس وطرح الهموم ليس إلا، فينبغي ان يكون الحوار أداة من اداوات السلطة السياسية لمعرفة الاتجاهات وسبر أغوار المجتمع، وتشخيص مشاكله، وبناء حركة اصلاحية واسعة تخدم المصلحة الوطنية العليا للبلاد.. 3 - ينبغي ان يقود هذا الحوار، بل إني ارى ان يتزامن هذا الحوار مع توسيع دائرة حرية الكلمة والاعلام في المؤسسات الاعلامية .. فليس مفيداً ان يكون هناك حوار داخل قاعات الاجتماعات ويحجب الحوار في وسائل الاعلام والأندية الثقافية ومؤسسات التعليم والجامعات .. فالمتوقع ان يكون هناك تناغم في حركة الرأي من خلال مركز الحوار ومن خلال المؤسسات الإعلامية والثقافية والتعليمية في المملكة. 4 - لا ينبغي ان يقتصر هذا الحوار على موضوعات وطنية بحتة، بل يمكن ان يمتد إلى موضوعات خارجية، تتناول علاقات المملكة ومصالحها الاستراتيجية مع دول العالم.. وتصبح افرازات مركز الحوار قوى ضاغطة تساند القرار السياسي السعودي في تعاملاته وعلاقاته الدولية.. 5 - لقد حدّد صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الإطار العام للحوار، والمحددات الأساسية لمثل هذا الحوار.. وهناك ثنائيتان جوهريتان ينبغي ان تكونا ضابطتين لكل ما يُقال ويُقترح من فكر ومضمون.. وهما الثبات على عقيدتنا الإسلامية، والحفاظ على كياننا السياسي ووحدتنا الوطنية.. وهذان المرتكزان لا يمكن المساومة عليهما في أي لحظة أو مرحلة أو مضمون يفرزه مثل هذا الحوار .. ولكن الذي نحتاجه بشكل اساسي في المرحلة القادمة هو تحديد الهدف من الحوار.. ماذا نريد ان نحقق من خلال حوارنا الوطني مع بعضنا البعض؟ ينبغي ان يكون هناك هدف واضح للحوار، فماذا يريد ان يحققه الحوار الوطني في بلادنا؟ هذا مرتكز اساسي في العملية الحوارية.. والذي يراه الكثير ان الهدف هو بناء مؤسسي قادر على احتواء التعدد والأطياف في مجتمعنا، وكذلك تقوية مجتمعنا وتعزيز قدرته على التعامل مع مستجدات الظروف الدولية ومتغيرات التكنولوجيا المتطورة في العالم، والمؤثرة على فكر وسلوكيات الكوكب الإنساني الذي نعيشه اليوم.. 6 - فيما يبدو أن الجامعات السعودية كانت غائبة في موضوع الحوار خلال الأشهر السابقة، وكما نعلم ان الجامعات هي المكان الحقيقي لحوار فكري عقلاني مدروس.. ولهذا فان الجامعات ينبغي ان تأخذ دوراً ريادياً في المرحلة القادمة من حوارنا الوطني.. وينبغي ان يدخل اساتذة الجامعات كموجهين اساسيين في ادارة دفة الحوار وتوجيهه إلى آفاق الأمان المجتمعي والمصلحة الوطنية العليا.. أما ما نتوقع ان تفرزه مرحلة الحوار من تطورات مؤسسية، فيمكن ان اجتهد اجتهاداً شخصياً في النقاط التالية: * الحوار هو أداة لتطوير المؤسسات التنظيمية (التشريعية) حيث يمكن ان يولد الحوار أفكاراً لتطوير العملية السياسية في بلادنا.. فقد يفرز الحوار تأسيس قاعدة عريضة من المشاركة الشعبية في القرار العام والتي أشار إليها الأمير عبدالله - حفظه الله- عند تكوين فريق لحوار وطني قبل حوالي الشهرين.. وعلى سبيل المثال، فإن مثل هذا المركز قد يقترح صيغاً من التطوير التنظيمي للمملكة.. وكنت قد اقترحت عبر صفحات الجزيرة قبل حوالي أربعة أعوام ان مجلس الشورى ينبغي ان يكون له مجلس رديف يمثل مناطق المملكة، ويتم تعيينه من خلال مجالس المنطقة الحالية..بمعنى أن ممثلي الأهالي في مجالس مناطق المملكة الثلاثة عشر يكونون مجلسا وطنيا مستقلا يكون معنياً بمناقشة القضايا الداخلية.. وبالتالي يضطلع مجلس الشورى بالقضايا الاستراتيجية للدولة.. وربما يكون مركز الحوار الحالي لديه رؤية في طريقة تكوين هذا المجلس بطرق حديثة تكفل التمثيل المناطقي والاختيار الأمثل للأشخاص وفق الصيغ الحديثة الملائمة.. * الحوار الوطني ينبغي ان يفرز مراكز دراسات استراتيجية واسعة تضطلع باستطلاعات الرأي العام واتجاهات الجمهور.. فهذه المؤسسات الاعلامية المهمة تساعد على معرفة اتجاهات الناس نحو العمليات التطويرية والنمو الفكري والوعي الاجتماعي للبلاد.. وكذلك مثل هذه الدراسات تساعد بشكل فعلي صاحب القرار السياسي والاقتصادي في بلورة رؤية منهجية وفكر علمي لما ينبغي ان يكون عليه القرار الداخلي والخارجي.. وقد لمسنا خلال السنتين الماضيتين ان مؤسسات التفكير الاستراتيجي داخل الولاياتالمتحدة هي التي تغذي صاحب القرار الأمريكي في البيت الأبيض أو البنتاجون أو أجهزة الاستخبارات الأمريكية بفكر ورؤى وطروحات جديدة، أمكن استثمارها لمصالح استراتيجية أمريكية.. فمجتمعنا بحاجة ماسة إلى وجود مثل هذه المراكز الحيوية التي تمثل عصب التفكير في المجتمع. * أتمنى ان يتم تحديد إطار زمني لمشروع الحوار الوطني، بحيث يتم تحقيق اهدافه الاستراتيجية خلال أشهر أو عام واحد وبالتالي ينتهي المشروع ويتحول المركز إلى مركز بطبيعة اخرى مختلفة عن الصيغة الحالية له .. فيمكن أن يكون مركز دراسات وفكر وطروحات وطنية وتغذية راجعة إلى صاحب القرار .. وينبغي أن يعطي الصلاحيات الحالية التي يتم منحها له إلى مؤسسات اعلامية وثقافية وتعليمية لتقوم بنفس الدور في المستقبل .. وليس من مصلحة الوطن أو المواطنين ان يظل الحوار إلى ما لا نهاية.. فالحوار أو المركز ننظر إليه كمرحلة فقط من مراحل التطوير المؤسسي للدولة.. رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال ( * ) أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود