هذا الصباح، أعدت قراءة محضر لقاء أبو مازن مع اللجان الشعبية في القطاع الذي كانت نشرته شبكة الإنترنت للإعلام العربي «أمين»، والذي لسبب ما احتفظت بنسخة منه في وثائقي الالكترونية، فعندما نشر نص ذلك الحديث لأول مرة، والذي جرى في شهر تشرين الأول/اكتوبر 2002 أثار ضجة وأمواجا وردود فعل عديدة في الداخل الفلسطيني وخارجه، بين رافض للرؤية التي عبر عنها السيد محمود عباس وبين مؤيد لها. وبإيجاز شديد نذكر بالنقاط الأساسية، وهي: لم تكن الانتفاضة خطأ لأنها تعبير عن غضب شعبي، ولكن الخطأ تمثل في تحويلها إلى معركة عسكرية بدل بقائها حركة شعبية. كلمة الاصلاح ليست أمريكية ولا إسرائيلية، وإنما هي تعبير عن حاجة فلسطينية. الأعمال التي أوصلتنا إلى نتائج مأساوية لابد من ايقافها. ينبغي ان نعرف من الآن إلى أين نحن ذاهبون، وأين سنكون، في ضوء حرب متوقعة على العراق. شارون ليس لديه ما يعطيه للسلام، ولكنه مع ذلك أول زعيم يهودي يحظى بتأييد 80 بالمائة من الإسرائيليين. لذلك علينا ان لا نتركه يحملنا إلى الموقع الذي يريد وهو المواجهة العسكرية وإنما نفرض نحن جدولنا ونجذبه إلى الموقع الذي لا قبل له به «أي المفاوضات». هذا التلخيص المكثف لا يغني أحداً عن قراءة النص الكامل للحديث، فهو كان مهما في ذلك الوقت، بكل الردود التي أثارها ولأهمية الشخص في السلطة الوطنية وداخل تنظيم فتح، وهو اليوم يغدو أكثر أهمية لارتقاء محمود عباس إلى منصب يبدو انه استحدث خصيصاً له، أي رئيس الوزراء، فهذا الحديث البسيط إلى أعضاء اللجان الشعبية، قد يشمل في الواقع جزءاً هاماً من أفكار الرجل الذي كان مهندس اتفاقيات أوسلو، ومن ثم فقد يكون أيضاً برنامجاً سياسياً حقيقياً، قبل البرنامج الذي ستعلنه الحكومة الفلسطينية القادمة. وليس شأننا هنا مناقشة محمود عباس، فهذا ما قام ويقوم به جيداً الساسة والمناضلون الفلسطينيون، بل حسبنا الاكتفاء بالملاحظة والتعليق. وفي هذا السياق، يعترف أبو مازن ان السبب الرئيسي لقدومه هو والقيادة الفلسطينية وكل الذين تبعوهم من المنفى إلى الضفة الغربية وغزة، هو تنفيذ اتفاقيات أوسلو: «لا ننسى أننا عندما جئنا عبر اوسلو جئنا لاستكمال مسيرة السلام» ومن ثم يلاحظ ان المسار الذي بدأ بشكل واعد انتهى إلى مأزق: «ولكن ما جرى في هاتين السنتين، كما نراه الآن، تدمير كامل لكل ما بنيناه وما بني قبل ذلك». والمقصود بالسنتين هي فترة الانتفاضة، لذلك، أحس منتقدو أبو مازن ان كلامه يتضمن اتهاما مبطنا للانتفاضة بأنها بددت كل المكتسبات المتحققة بفضل اتفاقيات اوسلو. بيد ان محمود عباس لم يبين في هذا الحديث على من تقع مسؤولية تغيير مجرى السلام، بقدر ما ركز جهوده على اقناع مستمعيه بأن الطريق الذي سارت فيه الانتفاضة، هو بالذات الهدف الذي ينشده شارون والذي كان أيضاً هدف نتنياهو من قبله: أي ما يمكنه من تحويل الصراع إلى مواجهة عسكرية، ستنتهي حتماً إلى خسائر فلسطينية أكبر بكثير مما يمكن تحمله، باعتبار ان إسرائيل كما يقول هي «دولة تم بناؤها لتنتصر على العالم العربي مجتمعاً بلحظة واحدة» وباعتبار ان شارون «هو أهم زعيم عرفته الحركة الصهيونية منذ هرتزل، لأن هرتزل لم يتمتع ب80 بالمائة من التأييد».. ومن ثم، يستنتج أبو مازن ان الطريق الوحيد الذي يمكن به الانتصار على إسرائيل، هو ان «نقول للعالم كفى.. نحن ذبحنا، نحن دمرنا، وهذه جريمة يجب ان تتوقف ونحن نريد السلام» ويعبر أبو مازن من ثم عن يقينه بأن شارون سيسقط بعد ثلاثة إلى ستة شهور من التفاوض، لأنه ليس لديه شيء يقدمه للسلام، وسيظهر آنذاك للعالم بأسره على حقيقته. وأهم من ذلك، ان محمود عباس بدا منذ ذلك الوقت موقنا بأن الحرب ستندلع في العراق، ويستشف من كلامه شعوره بأنه على الفلسطينيين ان لا يكرروا الخطأ الذي وقعوا فيه عام 1991 وأن يحافظوا على موقف محايد، لأنهم الطرف الأضعف، وقد كانوا إلى حد الآن ضحايا في كل الصراعات حول النفوذ في المنطقة، لذلك يرى انه «إذا اندلعت هذه الحرب وأوضاعنا بهذا الشكل، فستضيع كل إنجازاتنا وحلمنا». ويجد منتقدو أبو مازن في هذه المواقف الكثير مما يعترضون عليه، فهم يعتبرون ان هذه الطريقة لم تأت للفلسطينيين بأية فوائد، وأن فشل اوسلو هو بالأساس أيضاً فشل الطبقة السياسية التي تزعمت هذا السياق ودافعت عنه، حتى بلغت المأزق، ومن ثم، فإذا كان السبب الوحيد لمجيء محمود عباس وعرفات ومن معهما إلى الضفة وغزة هو فقط «استكمال سياق اوسلو» فإن هذا السياق قد مات ودفن، ولم يعد هناك أي مبرر لوجود نفس الأشخاص في القيادة. ويذهب هؤلاء المنتقدون إلى ان محمود عباس وياسر عرفات هما وجهان لعملة واحدة، أظهرت محدوديتها وعدم نجاعتها السياسية وأنه لا أبو مازن يستطيع انقاذ عرفات ولا عرفات قادر على جعل أبو مازن وجهاً مقبولاً في كل مكان، وواسطته لتمديد سلطته بلا نهاية. ويستند هؤلاء المعارضون إلى الحقائق الجديدة التي انتجتها الانتفاضة بالذات تلك الانتفاضة التي قرر أبو مازن انها لم تعد مفيدة، وهم يرتابون بأنه جيء به لإيقافها وتصفية المقاومة، والاستكانة إلى الخطط الأمريكية الإسرائيلية، والقبول بجميع الشروط، والتنازل عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وإذا قيل لهم مثلاً انه لا يمكن توجيه مثل هذه الاتهامات لرجل كان من مؤسسي المقاومة الفلسطينية، أجابوا بأن منظمة «فتح» تجاوزت مؤسسيها وقادتها الذين لم يستطيعوا التأقلم مع الظروف الجديدة، أو الذين استغلوا النفوذ بشكل غير شريف، ففي ظل الانتفاضة برزت قيادات جديدة لحركة «فتح» لها اشعاع كبير في الشارع الفلسطيني، بل ان البعض يتحدثون مثلا عن مروان البرغوثي بصفته القائد الشعبي الثاني بعد عرفات. وإذا ما ابتعد هذا الأخير عن المشهد السياسي، بسبب السن أو المرض أو لانتهاء دوره، فإن البرغوثي هو الذي سيحرز أكبر نصيب من الأصوات في أي استفتاء أو انتخابات لخلافة عرفات. بيد ان المشكلة ان البرغوثي اليوم رهن الاعتقال في إسرائيل وأن محمود عباس هو الموجود وهو الذي وقع تعيينه، وقد وافق على ذلك المجلس التشريعي الفلسطيني، كما انه يحظى أيضاً بتأييد الدول التي لم تعد تقبل ياسر عرفات كطرف مسؤول في أي مفاوضات. بعبارة أخرى، فقد بدأ الحديث الآن عن عهد أبو مازن، وغدا هذا هو المعطى الذي يتعين على الجميع حتى المعارضين التعامل معه، بانتظار ان تفرز الظروف السياسية المحلية، والاقليمية، والدولية تحولات جديدة، وآنذاك فلكل حدث حديث.