الخلاف سنة من سنن الله في الكون، ما زال الناس يختلفون في آرائهم وأذواقهم واهتماماتهم، والخلاف ما لم ينضبط وفق منهجية معينة يحتكم إليها فإنه يتحول إلى اختلاف مذموم يوقع في الفرقة والشتات فلا يكون له ثمرة ولا منفعة عملية في الحاضر ولا في الآجل. فالكتاب والسنة هما مرجعية المسلمين في ضوئهما يسوغ الخلاف بين العلماء المجتهدين ، فالمخطئ له أجر وللمصيب أجران. وقد تختلف أقوال العلماء المجتهدين في بيان نصوص الشرع وتفسيرها ودلالتها فحينئذ تتعدد الآراء في مسائل الأحكام، يقول العلامة ابن رجب ، رحمه الله . موضحاً أسباب ذلك: «ومنه أي الحلال والحرام ما لم يشتهر بين حملة الشريعة فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب: منها: انه قد يكون النص عليه خفياً، لم ينقله إلا قليل من الناس فلم يبلغ جميع حملة العلم ومنها: انه قد ينقل فيه نصان، أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفة أحد النصين دون الآخر، فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معا من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرا ومنها: ما يكون فيه أمر أو نهي، فيختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه وأسباب الخلاف أكثر مما ذكرنا» أ.ه. والخلاف في الشرع على نوعين: ومن صوره الواقعة أيضا أن يخالف الجاهل في المسألة غيره من أهل العلم والاجتهاد بسبب هوى أو رغبة ومصلحة يريدها، يقول صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل علم فقضى به، وأما اللذان في النار فرجل قضى للناس على جهل، ورجل علم الحق وقضى بخلافه»، أخرجه أبو داود وابن ماجة والترمذي. ومن صور الخلاف المذموم ما كان فيه قول شاذ أو ضعيف وصفته أن يخالف نصاً صحيحاً أو إجماعاً معتبراً في الشرع، ولا يصح أن يقال في هذه المسألة انها من مسائل الخلاف فيجوز الأخذ بأي القولين قال ابن القيم - رحمه الله: «وقولهم إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح ، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً ، وإن لم يكن كذلك فان بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار» اعلام الموقعين «3/288». 2 الخلاف الجائز أو السائغ: وهو خلاف العلماء المجتهدين فيما لا يعارض أصلا من أصول الدين أو إجماعاً معتبراً أو نصاً صريحاً ، فهنا يكون الخلاف سائغاً ومعتبراً ، ويكون اختلاف الأمة فيه رحمة ، ولا يصح الإنكار على المختلفين وتضليلهم، لكن هذا لا يمنع من بيان ما هو الأرجح والأقرب للصواب، قال ابن القيم - رحمه الله - : «وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً» ويقول الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: «ثم اعلموا وفقكم الله، إن كانت المسألة إجماعاً فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد فمعلومكم انه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد» الدرر السنية 1/43. ومنه كثير من مسائل الخلاف بين المذاهب الفقهية في مسائل الأحكام، الخلاف فيها سائغ والأمر فيها واسع. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن ثمة آداباً ينبغي على علماء المسلمين وعامتهم مراعاتها والقيام بحق المخالف فيها، ومنها: الأول: إحسان الظن بالعلماء وألا يعتقد أنهم تعمدوا ترك الحق الذي بان لهم، بل يلتمس لهم العذر في ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، ورذا حكم فأخطأ فله أجر» أخرجه البخاري ومسلم، قال يحيى بن سعيد الأنصاري: «ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه». الثاني: ألا يؤدي الخلاف إلى جفوة وفتنة بين المختلفين، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : «كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ، الفتاوى: 4/172، وروى الذهبي في السير عن يونس الصدفي قال: «ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيته ، فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة». الثالث: ألا ينكر على المجتهد في اجتهاده وعمله بهذا الاجتهاد، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «إنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر، فمنا الصائم ، ومنا المفطر، ومنا المتم ، ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر» رواه البيهقي في السنن. فقولنا: إن الخلاف في المسألة سائغ لا يمنع من تحري الحق، والمحاورة والمناظرة بين أهل العلم للوصول إلى مراد الشرع في المسألة، ولأجل هذا دونت عشرات الكتب التي تتحدث عن مواطن الاختلاف وموارد النزاع. * ، فلا شك أن أهل الإسلام فيما بينهم أولى بهذا وأحرى. ( * ) المحاضر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية