في نهاية فيلم أسد الصحراء The lion of the Desert 1981 نسمع أصوات السلاسل والقيود ثم نشاهد عمر المختار يمشي بخطوات هادئة نحو حبل المشنقة، وبعدها يصرخ القائد العسكري بحكم الإعدام، ويقول: «بسم حكومةِ طرابلس وبِرقة. نُنفذُ هذا الحكم الذي أصدرته المحكمة العسكرية في بنغازي، في 15 سبتمبر 1931 ، السنة التاسعة من العهد الفاشي. عمر المختار لقد ثبتت عليك الخيانة العظمى مادياً ومعنوياً. وذلك بالتمرد المستمر ضد الحكومة الإيطالية في هذه المستعمرة. إن حكم المحكمة عليك هو الإعدام شنقاً في مكان عام. سوف يتم تنفيذه الآن.. يا جنود نفذوا». يضع مجموعة من الجنود حبل المشنقة حول رقبة عمر المختار، ولا نسمع إلا صوت هواء الصحراء، وقرع الطبول العسكرية. مدموجة مع لقطات مقربة على وجوه الناس المجتمعة تضامناً مع عمر المختار. وبأسلوب سينمائي بليغ نشاهد طفلاً صغيراً يقف بين الحشود بلا خوف من الاستعمار ولا من حبل المشنقة. وتتبع الكاميرا هذا الطفل وهو يحاول الاقتراب من خشبة الإعدام. ثم في لحظة مليئة بالمشاعر ينفذ حكم الإعدام على أصوات التكبير والزغاريد. ولا يتبقى من عمر المختار إلاَّ نظارته، فيأخذها الطفل الصغير، وكأنه يرمز للأمل بالأجيال القادمة ومستقبلها. وأن بصيرة المختار أكبر من وقع الموت. وكانت هذه اللقطة المؤثِّرة آخر لقطة أخرجها سينمائياً المرحوم مصطفى العقاد. لم يكن حضور الطفل في نهاية الفيلم مجرد دلالة رمزية فنية، بل كان إيماناً عميقاً بالوسيط السينمائي، ولو نظرنا لسيرة حياة العقاد نكتشف أن الخوف على وعي الأجيال الجديدة هو الدافع الذي جعله يخرج فيلمه الأول، فيلم الرسالة The message 1977. ويعبر في كثير من اللقاءات التي يناقش فيها فيلم الرسالة أن هاجسه الأول لعمل الفيلم هو تثقيف أبناؤه ببداية ظهور الإسلام ولكن لأنه كان يتمتع بخصال الكرم خاطب كل الشرق الغرب عبر الوسيلة السينمائية ولم يستثن أحداً، ونتج عن ذلك إيضاح ولو بشكل جزئي حقيقة الإسلام وحكاية بدايته. تجربة مصطفى العقاد ليست مهمة لأنه أخرج فلمين من أهم الأفلام التي تناصر القضايا العربية والإسلامية، ولكن لأنه أيضاً دخل مجال الإنتاج السينمائي، ومولَ سلسلة أفلام الرعب هولووين، التي حققت نجاحاً ساحقاً خصوصاً داخل أمريكا؛ بداية من الجزء الأول Halloween 1978 والذي موله بمبلغ منخفض جداً مقارنة مع تمويل أفلامه السابقة، ويقول في ذلك عبارة مهمة جداً: «عندما يُصنع الفيلم بميزانية عالية جداً تشعر بالقلق، وعندما يصنع الفيلم بميزانية منخفضة جداً تشعر بالقلق؛ كيف سينجزونه بهذا المبلغ الزهيد؟» العقاد فنان حقيقي عرف أسرار السينما و تاجر ناجح عرف أسرار هوليوود. ولو نظرنا لتاريخ السينما الأمريكية من فترة الأفلام الصامتة نشاهد أفلاماً ناجحة جداً مثل فيلم الشيخ (1921) وفيلم ابن الشيخ (1927) ثم مع دخول الصوت والألوان نمر بأفلام ناجحة مثل لص بغداد (1940) ومع تطور الرسوم المتحركة وأفلام ديزني نشاهد فيلم علاء الدين (1992)، و إلى يومنا الحاضر، لا يوجد فيلم يتعامل مع الشخصيات العربية بلا تنميط، وبدون استحقار، ولو فقط على مستوى القدرات العقلية، وعلى مستوى السلوك والأزياء، وكأن المؤسسات الأمريكية رغم إنتاجها المالي الضخم لا تحاول البحث عن الحقيقة إلاَّ باستثناء أفلام العقاد، فنشاهد نماذج طبيعية للبيئة العربية، أيْ لو أن مصطفى العقاد لم يخرج فيلميه أسد الصحراء والرسالة ، لمَا عرفنا إطلاقاً كيف تظهر الصورة التي تحترم النضال العربي ضد الاستعمار، وتحترم نشأة الدين الإسلامي بكل تفاصيله. لم تكن حياة العقاد سهلة، بل كانت مليئة بالتحديات الصعبة منذ طفولته حين ولد في حلب عام 1929 م وكان تلك السنة هي سنة استقرار للسوريين بعد العديد من الحروب المناهضة للانتداب الفرنسي و لكن بعد مولده تشكلَ ما يعرف تاريخياً باسم «الجمهورية السورية الأولى» عام 1930. وبالتالي عاش العقاد طفولته الأولى في ظل بقايا الانتداب الفرنسي، ودرس المرحلة الابتدائية في مدارس فرنسية، ثم دخلت سوريا مرحلة جديدة من مقاومة، ترفض فيها كل أشكال الاستعمار الفرنسي، ونتج عن ذلك طرد ما تبقى من الثقافة الفرنسية، فاضطر العقاد للانتقال إلى مدرسة انجليزية ودرست الباقي من تعليمه باللغة الإنجليزية. كان ارتباط العقاد بالسينما مبكراً، وكان في طفولته يعمل في صالات عرض الأفلام ثم تدريجياً تعلم كيف يقص القطات غير المناسبة من شريط الفيلم، وأحب السينما، ولذا قرر الذهاب لهوليوود لدراسة السينما. ويقول: «هاجرت فقير مادياً، وما كان معي شيء. لكن كنت غني تربوياً ودينياً وأخلاقياً. التربية البيتية كانت أكبر تراث لدي.» وعندما وصل إلى أمريكا لم يملك إلاَّ 200 دولار من والده، في جيب، والقرآن من والدته في جيبه الثاني. ثم كافح واجتهد، وأكمل تعليمه وحصل على البكالوريوس والماجستير، وكان رئيس اتحاد الطلبة الأجانب وكانت له شعبية كبيرة. وبعدها عمل في عدة برامج تلفزيونية ثم حصل على فرصة للعمل من ضمن الكادر مع الأسطورة السينمائية ألفريد هيتشكوك في أحد أفلامه بالستينات. اندمج العقاد مع الحياة الأمريكية. وأحب فتاة أمريكية وتزوجها، ومن المفارقات الممتعة أن طريقة عمل زواجه تشبه طريقة عمله في فيلم الرسالة. في زواجه قدم زواجين في نفس اليوم، بدأ بالزواج المسيحي الأمريكي لأن زوجته مسيحية أمريكية، ثم أكمل يومه في عمل مناسبة زواج عربية إسلامية. وبنفس الأسلوب صنع فيلمه الرسالة، بنسختين، نسخة إنجليزية أمريكية من بطولة الممثل القدير أنثوني كوين بدور حمزة، و ونسخة عربية من بطولة الممثل القدير عبدالله غيث بدور حمزة، ومجموعة من أجود الكوادر العربية والعالمية. في فيلم الرسالة كانت الموسيقى التصويرية من تأليف الموسيقار موريس جار، والذي قدم واحدة من أعذب الموسيقات التصويرية في التاريخ، ولكن لم تكن تلك المرة الأولى التي يتعامل فيها جار مع الصحراء والثقافة العربية، لأنه ألفَ سابقاً موسيقى فيلم لورنس العرب، وهي أيضاً قمة في الروعة والإبداع، وتحاكي جماليا الصحراء والمساحات الشاسعة وألوان البيئة وطبيعة البشر و ارتباطهم بدينهم ولغتهم وخيولهم وصحاريهم، وكل ذلك يدل على أن اختيار العقاد لم يكن عشوائياً، بل كان اختياراً مبني على دراسة عميقة ووعي عميق بالصورة العربية المقدمة في السينما العالمية. صناعة السينما هي عمل جماعي على مستوى التصوير و الأزياء والتمثيل والموسيقى، و رغم إن فيلم الرسالة كان أول أفلام العقاد إلَّا أنه لم يخشى العمل مع العمالقة الذين كانوا يتربعون على قمة الهرم الإبداعي السينمائي، بل ووظفهم بأفضل الطرق الفنية، وذلك لأنه لم يعمل معهم لأجل أسمائهم، ولكن لتعبئة أدوار محددة و متطلبات فنية خاصة. في كلا الفلمين التي قدمها العقاد، يلعب أنثوني كوين دور البطولة، ولم يكن حينها ممثل صاعد بل كان ممثلاً في رصيده جائزتين أوسكار من أربعة ترشيحات، وفي سجله الكثير من الأفلام العظيمة التي حققت نجاحات ساحقة أفضلها بالنسبة لي دور شخصية زاميانو في فيلم الطريق La Strada 1954 للمخرج الايطالي فيلليني، وشخصية باسيل في فيلم زوربا اليوناني (1964) المقتبس من رواية بنفس الاسم للكاتب نيكوس كازانتزاكيس، وأخيراً شخصية الشيخ عودة أبو تايه في فيلم لورنس العرب للمخرج الانجليزي ديفيد لين. قام الممثل أنثوني كوين بتأدية شخصية عمر المختار، وهو متزوج من امرأة إيطالية، والفيلم يسيء لجزء من تاريخ إيطاليا الاستبدادي في العالم العربي، ولكن ذلك لم يمنعه من رفض قول الحقيقة، والغريب أن الفيلم لم يحارب في إيطاليا بل على العكس لقي قبولاً نقدياً وجماهيرياً جيداً بسبب كره الإيطاليين للمرحلة الفاشية، ولكن الغريب أن الفيلم أضر أنثوني كوين في أمريكا، لأنها كانت في حرب إعلامية وعسكرية مع معمر القذافي، وبالتالي منع الفيلم من العرض في أمريكا وحُرب بشدة، وهذا يدل أن أمريكا لديها العديد من الممارسات الدكتاتورية، وخصوصاً فيما يتعلق بسلطة الشاشة والتأثير على الجماهير، وغسيل الأدمغة. في يوم الجمعة 11 نوفمبر 2005 توفي العقاد بسبب انفجار إرهابي في عمّان، الأردن، مع ابنته ريما، التي أحبها حباً شديداً. لم يكن موت العقاد مجرد موت لفنان عظيم ومبدع، ولكنه موت أحلام العودة لرؤية التاريخ العربي بعيون مصطفى العقاد، ولأنه كان يتنفس الفن لدرجة استطاع فيها التعبير عن أفكاره وهمومه بلغة سينمائية لم يسبقه إليها أحد، ولم يأتي من بعده أحداً يضاهيه في شجاعته. وبكل الأحوال فتح العقاد باباً عظيماً لكل العرب من ناحية الإخراج ومن ناحية الإنتاج، وقال عبارة مهمة: «السينما صناعة؛ عرض وطلب، إذا طلب الجمهور لا بد أن تعطيه». وبهذه المعادلة البسيطة حقق النجاح، ولم يكن نجاحه فقط بسبب أفلامه عن قضاياه العربية، ولكن أيضاً بسبب نجاحه السيطرة على شباك التذاكر الأمريكي عبر سلسلة من أفلام الرعب. وتركَ العقاد خلفه رسالة خلاصتها أن العقل العربي أقوى من الصورة. ** **