أن تقترب من العلي ومن كتاباته الشعرية أو النثرية، يحتاج منك الإلمام بالكثير من تفاصيل ذلك الرجل الأشبه بجبل شامخ متكئ على ركام سنوات عمرٍ قضاه بين الفكر والأدب والكتابة، عمرٌ لم يدخر منه شيئاً لنفسه، بل كان يصنع المستحيل من أجل رفع وعي مجتمعه وأمته، لذلك يتشبث بالكتابة رغم التعب، ورغم السنين، ورغم الوجع ونوبات يأس تنتابه في بعض الأحيان ، يكتب لغدٍ سوف يأتي لا محال، لأن النور ينبثق من رحم الظلام، وما آية الشمس إلا دليل على الحقيقة. أقرأ بعض أبيات معلمنا، ليست قراءة ناقد، بل قراءة متذوق للشعر، ومحب للوعي الذي يملكه الأستاذ الكبير، وأتمنى أن تحظى قراءتي المتواضعة بقبول منه ومن المتلقي. قصيدة العلي المعنية بالقراءة، من القصائد الجميلة له، وجمالها فيما تحمله من معان بعيدة ووصف للإنسان المشدود كالقوس بين الأمل واليأس، وبين النور والظلام، بين الحلم والحقيقة ، ودور الخيال في انتشال النفس مما هي فيه. عُمْرٌ يَنسى مجراهُ ، ويبقى كنبيذٍ طاعنٍ في الرُشف. يحمل هذا البيت عدة قراءات ممكن أن يُقرأ بها، الأولى وهي وصف العمر المهدور دون أي هدف بالنبيذ اللذيذ الذي لم تتبق منه إلا رشفات قليلة، يشير هنا إلى قيمة العمر الكبيرة. والقراءة الثانية تعود على كلمة (ويبقى) وهنا يأتي السؤال، هل كان هدر العمر بإرادة الإنسان، أم هو أجبر على ذلك؟ وفي كلا الحالتين يصف الشاعر ذلك العمر بالرشفات، لأن ما هدر من العمر أكثر مما هو متبق. يعود في الأبيات التالية ليصر على الحلم. أيوجعُك الحلمُ؟ أطلِقهُ .. دعه يفيضُ كما الموت، وتخيَل إذا ما الهديلُ تناعَسَ تحت المطر بعد وصف العمر والسنوات المهدورة منه، وإطلاق الحسرات عليها يعود ليشعل الأمل من جديد، ويدعوك للحلم لأنه هو البداية الصحيحة لحث النفس على المثابرة والتفاؤل ويؤكد ذلك بكلمة (أطلقه) ويقصد أعلنه، ارفع صوتك من أجله، لأن الأحلام لا تتحقق دون إرادة. كما قال أحمد شوقي، وشدت السيدة أم كلثوم: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. وفي الأبيات القادمة قد توضح أمور لاحقة غامضة لم تفهم بعد ، لأن الرؤية تكتمل باكتمال الصورة. مترعاً كان ذاك الجدار. كُنتُ أقرأُ ما خطَهُ السِابقونَ على وجنتيه، وأصنَعُ في لَوْعَةٍ مُقمِرة نوافذَ من فرَحٍ ناحلٍ، ثُمِ أرسُمُ للاحقين: مواعيدَ، أجنحة، ثرثرة.. هي حكاية من يقضي سنوات من عمره بين الجدران، ويقرأ كتابات من سبقوه، ويحاول أن ينقش عليه شيئاً، ولكن لا مكان يسمح لإضافة جديدة لذلك يقول: مُترعاً كانَ ذاك الجدار. ويمكن أن يكون الحيز الضيق أكبر من الجدران، ويتسع العالم الذي يعيش فيه، يبدو أن الأبيات قيلت والنفس مشدودة تتأرجح بين الأمل واليأس، يلجأ الشاعر لفتحة كوة للأمل احتفاء به حتى ولو كان ذلك الأمل كخيط من الضوء. في الأبيات التالية يعود للشكوى والسؤال، لأن الهم هنا أكبر، ويحتاج أن نتقاسم معه هذا الهم، يحاورنا: كيفَ الفرارُ من الشعر هذا الذي أصبحَ لصِاً بحجم الليل؟. هنا هل يريد شاعرنا الهروب من الشعر، وهو ما يتوسل به الشاعر ليعبر عما في داخله! نستبعد ذلك؟ ولكن يتمنى هروبا آخر، من تلك الأفكار التي تسرق النوم منه، دون أن يتخلص منها بالتعبير عنها، أو لم تكن تفهم كما أراد لها، لذلك هو يطرح السؤال علينا كي نشاركه ونبحث عن مخرج. يعود لطرح سؤال آخر كي يبني حواره الخاص العام. كيف الفرارُ من هذه الهويِة التي لا تدري على أي موجةٍ تبني وكرها؟ هو سؤال بمقدار ما هو خاص، فهو عام ، لذلك يصر على طرحه، كي يكون الحوار مفتوحا، والنقاش أكثر جدلا، كما تحرض عليه أسئلته الملحة التي تواجهنا بها كتاباته طوال الخمسين سنة الماضية، سواء شعرا، أو نثرا. ما لهذا المساء يتحدّثُ في نفسه بأحاديثَ مثل عيون النساء.. ما لهذا المساء يتكاثَرُ حتى كأنّ النهار تناساهُ أو مَلَ أوهامَهُ، فانتحر؟ مالَهُ يتصفّحني ويُدَرّبُ أوداجه للنحيبِ على رقصة الزّهر في مقلتي أو راحَتي أو الظّن .. يشتكي الشاعر في هذه الأبيات، لكن مِم؟ من الليل الطويل ، أو من الأفكار التي تؤرقه ، أو من المكان الذي ضاق به، ويتمنى الخلاص منه في أقرب وقت، تطاول الليل تسبب في ولوج كهف الذكريات وذلك سبب من أسباب الأرق الذي يعاني منه سيد القصيدة، أرق مستمر يعاني منه كل من يسأل العقل باحثا عن الحقيقة، كما يقول المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله. ** **