في الطائرة أدركت أن المسافة بين القاهرةودمشق أقصر تقريباً، بل أقصر جداً من المسافة بين القاهرة وأسوان، جغرافياً وتاريخياً وأمنياً وعاطفياً. لذلك أدركت انني لا بد سأكتب قصة خروجي ورجوعي. وفكرت ان اصطنع بعض الشروط والوصايا، ورتبتها كالآتي: 1 - ان أتوقف عن الخجل من كوني لبناني العصبية والجنسية، مصري الهوى والاقامة، كما ألمحت لي من قبل الفنانة نجاح طاهر، وكما سيقول لي من بعد الشاعر نزيه أبو عفش ويؤيده الشاعران اسكندر حبش وعادل محمود. 2 - ان أضبط عين الكاميرا على شقّها الغامض لتلتقط صورة فوتوغرافية للروح بدلاً من التقاط صور للأحداث والأخبار والأماكن. 3 - أن أملأ كتابتي بالبشر لعلني أستطيع أن أحيطها ببخار أنفاسهم، وبالعرق، وبالوجوه المقلوبة، وبالحنين والتعب. 4 - أن تكون أسماء البشر حقيقية وتدل على شبان وكهول وشيوخ من غير ذوي النفوذ، الذين هم صعاليك أوائل، الذين هم ريح. هكذا رأيت الطريق الى دمشق مملوءاً بأشواق كثيرة، يمكنك أن تقرأها: مملوءاً بأشواك كثيرة، وصلتني الدعوة كأنها بشارة، السيد عبدالمنعم رمضان، انت قادم في الفترة من مطلع أيار مايو الى التاسع منه، لتصوغ معنا أيام الشعر في حلب ودمشق، تجهز ولا تتكاسل. ومع ذلك ما حيلة الطائش الغريب؟ هبطت من الطائرة في آخر ليل الثالث من أيار مايو، هبطت من دون اطمئنان، وبغير انتباه عرفني "رياض شيا" واحتضنني، وأخذني الى الكافتيريا. بعد قليل كان نعل حذائي يتحسس الأرض، وكنت وحدي أصغي الى رفيف الأعضاء، قال لي رياض، ستضيع، أنت الآن في دمشق، هل تعرف جاد الحاج؟ اركب هذا الباص واذهب الى حلب، لا تنسَ زيارة قلعة سمعان، وبيمارستان الأرغوني قلعة حلب ليست مهمة، وعندما تعدو سيكون فمك قد اندمل، وأصبح صالحاً ربما للشعر. كنت لا أعرف ان بعض صوت الهايكو السوري ينتظرني، كمثل نقار الخشب، فراغ ورائي لا يتسع لغيري، لقد أسرفنا في عمق الغاية. كنت تمددت كنهر، حتى جاءني صوت استغاثة فرأيت مركباً، يحار بين يابستين، وجوزة سقطت من الغصن، وعليها أن تتدحرج حتى الآن، كان صوت الهايكو السوري خفيفاً ودافئاً ومتواضعاً، يخرج كاللهاث. ليل حلب ساعة وصولي كانت تغسله الأمطار حتى اذا ذهب الى سريره يكون نظيفاً وناصع السواد، تأملت البيت الذي سأسكنه عرفت في ما بعد انني في حلب القديمة، حلب التي تتوسطها القلعة، وتشرف على ما وراءها. الجادات ضيقة متعرجة لا تدل على المكانة التي تخفيها أبواب البيوت. تأملت البيت أكثر، انه ملك للسيد نجاد الجابري، أذكر شكيب وسعدالله الجابري، قيل لي: شجرة النسل، انصرف عنا الفرنسيون وتركونا نؤلف حياتنا، كنا ثلاثة، أنا، والفرنسي المولود سنة 1935 والهارب من اسمه القديم، والأليف جداً، الشاعر ليونيل راي، والصيدلانية المترجمة النشطة "رنده بعث"، ترجمت "طربوش" روبير روليه ترجمة جديدة وكاملة، وترجمت "بؤس العالم" لبورديو والذي رأينا نسخته الأولى بعدما وصلنا دمشق. وكان ينضم الينا قرب الظهيرة محمد فؤاد. في كل مرة رأيت فيها محمد فؤاد، كنت أفكر في ذلك التوازن بين اللياقة والسخرية. حلمت أن يترجرج التوازن ويميل ناحية السخرية، ذلك التوازن بين الطبيب والشاعر، حلمت أن يترجرج ويميل جهة الشاعر. حاولت أن أهمس برغبتي في أذن فؤاد، لكنني أحسست انها رغبة غير مشروعة. جاءني صوت الهايكو في ما بعد، وراءك، لا أحد يرفع ذيل العروس، محمد فؤاد شخص ساحر، قامت رنده بعث وكأنها جالسة في مكان ما أعلى من نبع، قامت وقادتني الى أول شؤوني. هنا المطبخ، هنا البراد، هنا الخبز، كنت جائعاً أبحث عن إفطار، بقايا شاي على الطاولة، وقواميس ودواوين شعر طبعة غاليمار، وأوراق مكتوبة بخط يشبه الفأل الحسن. قالت رنده: لقد عملنا من دونك، الآن ستعمل معنا، بعد الظهيرة صعدنا الى قلعة سمعان، أو دير سمعان العمودي، في الطريق لم أشأ أن أنظر الى الجدران، لم أشأ أن أرى اللافتات، حرصت على صيانة عيني وتجهيزها للأحاسيس الأولى. فاجأتني العمارة الأيوبية في كل مكان والتي تتخللها عمارة مملوكية أصبحت بسبب التقادم والتجاور تشبهها. صراحة العمارة الأيوبية وعسكرتها جعلتني أفكر في حيل الفن وألاعيبه. كانت المشربيات والنوافذ كلها كأنها فتحات للكشف عن عدو مقبل والتصويب عليه. في اليوم التالي زرت بيمارستان الأرغوني، المخصص للعلاج النفسي بالموسيقى وخرير الماء، نسيت تاريخ البيمارستان، تخيلت ان الطريقة التي كان يُعالج بها المرضى لا تصلح إلا للشعراء. هنالك حجرات للنساء، وحجرات للحالات الحرجة، وحجرات ثالثة للحالات التي أوشكت على الشفاء، تساءلت أين ستكون حجرات المتنبي وأبي العلاء وسعيد عقل وعباس بيضون الخ الخ؟ وهل يستحق مثلي حجرة من هذه الحجرات؟ قادني "زهير دباغ" الى بقية المدينة، الأسواق القديمة، باب قنسرين، وباب أنطاكية، وباب الحديد الذي أقامه قنصوه الخوري. ذهبنا الى مقاهي الخان وقبر الظاهر بيبرس، وأحد الحمامات، وبيت جوليان الموسيقي الزائف ومدير الدار حيث سمحوا لنا بالتجوال فيه، في بيت زهير دباغ رأيت منحوتاته وخطر ببالي انها تتمتع بالسيولة، تتمتع بما يمكن أن يرتسم على فم زهير قبل أن يتكلم. كان صوت الهايكو يقترب، أن ترمي شباكك، فتصطاد جرّة الملح، صباح فخري وصبري المدلل يملآن الثقوب المنتشرة فوق جِلْد الهواء، ومع ذلك كان المطر ينفذ، في المساء سهرت مع الخاسرين، مع الشعراء، كلهم كانوا شباباً، كلهم كانوا الأكثر فتنة، الأكثر توتراً، كانت أسماؤهم اسيرة منام سأراه وعندما أفرك جفني أراهم قد خرجوا من المنام، وأخذوني معهم الى المشربية، عمر قدور، عارف حمزة، بسام حسين، صلاح داود، وأحمد برهو، وآخرون، بدأوا محبتهم معي بطريقة هي الأجدر والأقل حماقة، أظافر مثل البللور الأبيض، مسنونة ومصوبة نحو لساني، يريدون ان يقتلعوه ويضعوه على نيرانهم، وما يتبقى منه سيكون هو الجزء الحقيقي، بعد ساعتين كانت أصابعهم قد هدأت واستقرت على هيئة خيوط نبيذ مسكوب، وبعدها استطاعت الأرواح أن ترفرف في الزرقة، كنت الأكثر خبرة والأقل براءة لذا حاولت أن أحصّن هذا الحب ببعض البعد، ببعض المسافة، تقف أرواحنا على حافة الفم، مثل هواء، على شفرة الهبوب، بسام حسين ما زال يتكلم عن موت الشعر، لم يكن لحّاداً، كان يتكلم عن الموت كأنه يرجو أن يمنحه أحدهم فرصة الأمل، شرط أن يكون عقلانياً محضاً، في أعماق الليل، تماماً في الثانية إلا الربع، بلغ عارف حمزة عامه السابع والعشرين، كان الأصغر من كل رفاقه، فتشت جيوبي، نعم معي قصيدة جديدة، قرأتها أمامهم في تحية ميلاد عارف، في السادس من أيار مايو ذهبنا الى الأمسية، صعد الى المنصة عمر قدور، وشوقي بغدادي، وعبدالمنعم رمضان، وليونيل راي. صعدنا تباعاً كشعراء، هكذا عرفت أن الهايكو الذي طاردني كان يقوده بعصاه الرفيعة التي تشبه الناي عمر قدور، وعرفت ان شوقي بغدادي ما زال يضع راحة يده في يد وطن يظهر كأنه عامل طويل القامة تعب من الامساك بالمطرقة، وأصبح يسعى وراء الغيوم ليحولها الى مصانع ومعامل، وأحياناً الى غابات، كان شوقي بغدادي ما زال طيباً كعادته، حنوناً كعادته، في خاتمة الأمسية حيَّتني شاعرة شابة حلبية وشدَّت على يدي، ثم قال لي أحدهم، أثناء قراءتك أعلنت بصوت مسموع سخطها وأخذت تردِّدُ: ليس هذا شعراً، ليس هذا شعراً، فاجأني الحادث والحديث، كيف استطاعت الشاعرة الشابة أن تمايز بين موقفها النقدي، وموقفها الانساني، رأيتها متحضرة جداً، في القاهرة وفي باريس، في روما وفي أمستردام، في مراكش وأخيراً في حلب، تعلمت ان الشعوب والناس دائماً أجمل مما عداهم، أجمل من حكامهم، في طريق الذهاب من حلب الى دمشق، كشفت لنفسي عن سر يختبئ داخلي، قلت لنفسي، إن القاهرة العامرة بآثار الفراعنة الذين يتجلّون كزمان منفصل وقديم وغير ظاهر في الوجدان، أجبرتني أن أمشي فيها هكذا، أمشي في المكان، أما هنا فإنني أسير في الزمان، أتحرك من ديك الجن الحمصي الى ابي فراس، الى ابي العلاء، الى الظاهر بيبرس الى صلاح الدين، الى السيدة رقية، الى يوسف العظمة، انه حضور طاغٍ لا يمكن أن تنصرف عنه، لم أمكث في دمشق إلا يومين ونصف يوم، كانت أمسيات الشعر مزدحمة بما يجعل الشعر نفسه غريباً ومنبوذاً، من الخامسة والنصف حتى العاشرة تتخللها راحة تفصل بين جزئين، الأول للمبتدئين والمجتهدين والشبان والثاني للضيوف السوريين وغير السوريين، وعلى مدى يومين، ان الشعر أيضاً يحتاج الى بعض الرأفة والحنان، تمنيت أن أهمس في آذان أصدقائي الآتين من حلب، لو انني مكانكم لاعتذرت عن القراءة في الجزء الأول من الأمسية، كنت سأفضل الجلوس على الرصيف، هكذا شعرت ان غياب "هالا محمد" كان يعني انهم لم يستطيعوا أن ينتفوا ريشها وانها تفكر في أن الاجنحة للضرب وليست للخضوع، انصرفت واستقبلت في قلبي أصحابي عادل محمود نزيه أبو عفش واسكندر حبش ومهدي محمد علي، قابلت صادق جلال العظم، ذكرت له كيف قرأت كتابه "نقد الفكر الديني" مصوراً، وكيف أفادتنا كتاباته في معرفة لماذا تختلف معهم ومعه، ولماذا نرفضهم ونشذّ، عليهم وعليه. في اليوم التالي أهداني نسخة حديثة من الكتاب. في بيت نزيه أطللت على جناح من "قاسيون" وشكا نزيه من أن بعض الشعراء المصريين يتسربون الى دمشق وينتشرون فيها، كان يمكن ألا يأتوا لولا قطار الصحافة السريع في بيت نزيه تعرفت على نوع جديد من المرارة النبيلة. لحسن حظي ان الوجوه التي لا أحب أن أراها، لم أرها فعلاً، إنهم يشبهون بعض مسؤولي الثقافة في مصر، غليظون وناعمون وأجلاف، عندما طلبت من أحدهم "رسائل الحكمة"، قال لي: من الصعب الحصول عليها. عندما طلبت من الآخر نسخة فوتوكوبي لبعض دواوين سنية صالح، قال لي: في الليل نذهب معاً الى محمد الماغوط، ونسهر معه. قلت له: لا، وشكراً. النجوم الآفلة، بعضها يشق ويذوب، هكذا أتذكر يحيى حقي، وبعضها لا ينسحب ولا يغيب في صمت، إنه يسقط ويقتل كل من يصادفه، يقتله لاستعادة بعض الألق. استقبلت في قلبي المسجد الأموي الكبير، وقصر يوسف العظمة، وبقيت على حالي، لا أنظر الى الجدران أو اللافتات، تفاديتها وغنيت بعض القصائد من تأليف ليونيل راي وترجمة رنده بعث وتحريفي: "دائماً الأنهارُ/ تشتطُّ في البعدِ/ لكي لا تعود/ دائماً الأنهار/ قرينةُ الحياةِ/ تنسربُ تنسربُ ولا تتوقفُ". في اليوم الأخير، قابلني ليونيل راي يسار المسجد الأموي، أخبرني انه سيعود مع فينوس خوري غاثا ولكن الى بيروت. أيضاً في اليوم الأخير، كانت السماء تمطر... وفي الطريق الى المطار، كنت أود أن أقول ل"رياض شيا": أحس انني سأعود ثانية، لقد دخلت أنفي روائح البضائع في طريق الحرير، لقد تخللتني رائحة الشمس الذهبية، هل تعرف يا رياض، انني بحثت عن مها الصالح لأنني أحب أختها سنية، وأحب البحر، وأفكر فيه، وأسأل نفسي لماذا لم نعرف جاد الحاج. صمتُّ، ثم وضعتُ يدي على زجاج نافذة السيارة وقلت لرياض: إن السماء هنا قريبة، قريبة جداً، انني أستطيع أن ألمسها بيدي، ولولا ان رياض كان يضحك ويتأمل مثل متصوف يجول في روايات اميركا اللاتينية، لحاولت أن أغافله، وأنزل من السيارة وأمسك السماء وألتف بها، وأطير من دون حاجة الى ركوب الطائرة، قد أهبط أولاً في بيروت، قد أتلصص وأسأل عمّن أحبهم، ثم ألتف ثانية وأذهب، ولن أنسى أن الذين أحبهم دائماً ظلالهم مائلة. * شاعر مصري.