الباحة – علي الرباعي شغفت بالعَروض و»قطَّعت» حتى أسماء المحلات التجارية أحاول مقارعة الوحشة بالقصيدة.. وأحترم نفسي بالكتابة إبراهيم زولي يرى الشاعر إبراهيم زولي أن فترة ثمانينيات القرن الميلادي الماضي، صنعت جيلاً اهتم بالتأسيس النظري، والتأصيل لكل آرائه، برغم الصدامات والمواجهات بين ما يسمى بالأصالة والحداثة. هذه الفترة شكلت تحولاً مفصلياً في حياة زولي، فهي مرحلة الجامعة، ونشر النصوص في الصحف والمشاركة في مهرجان الشباب الخليجي الثالث للشعر والقصة في أبها، ومرافقة عدد من الأسماء البارزة حالياً في الساحة الأدبية. يعد زولي أنموذجاً للمثقف الجاد، والشاعر المنتمي للنص، والقارئ الحذق، مؤرق بالتحديث وواضع بصمة في مسيرة حدثنة الشعر، كائن معرفي نهم، وربّان كلمة ماهر، وبما أنه من رموز التكثيف، آثر هنا أن يختزل هذا الحيّز من صفحتنا لنعود معه إلى البئر الأولى. * ماذا عن يوم مولدك؟ - سؤال يفتح أبواب الذاكرة المنسيّة، ويهبط بي أدراجها. في ركن صغير مزدحم بالأحلام، وقريبا من تلك البيوت التي تشبه الأصدقاء، وتحت أشعّة فانوس يكاد زيته يضيء، في وقت متأخر من الليل، وعمْر أبي، خرجت للحياة. كانت الزغاريد تتطاير كالنحل، كما حدّثتني جدتي، وكان أبي يدوزن في أعماقه فرحا يكاد يخترق أضلاعه، حيث كنت الابن الأول له. ليلتئذ مزّق سكون الليل بطلقات الرصاص من بندقيته البلجيكية، حتى لم يبق شبر بالقرية لم تصله رسائل البهجة. نساء وجنيات * هل بقي في حناياك شيء من حديث الجدات؟ - كانت جدتي زينب فضاءً نابضاً بالحكايا، تسرد لي عن نساء يسرّحْن شعورهنّ بسنابل الذرة، ورجال تتزيّن خواصرهم بالسيوف والطلقات، وجنيّات، وطيور خضراء تتوشّح بالأمل، تحكي لي حتى أهبط في نعناع النعاس، الذي يأخذني إلى أحلام لا تقلّ دهشة وغرائبية عما روته جدتي.
افتتان بالتليفزيون
* بماذا افتتنت في ذاك الوقت؟ - كنت مفتونا بالتليفزيون، وصوره المموّهة بالألوان التي تجرني إلى عسل الرغبة في المعرفة، والذهاب خلف جدران المجهول، كانت تأخذني للجيران، قبل أن نقتني واحدًا في بيتنا. * من هي أنثاك الأولى؟ - أنثى واحدة ووحيدة هي آمنة ناصر، أمي؛ في غيابها تحالف الحطّابون والقتلة، وألْقوا بوجهي بعيداً في أقاصي الليل، عندما تعبر في داخلي، يتحوّل جسدي إلى مدفأة، تكون أكثر غموضاً عندما تحاول المفردات اصطيادها، حتى بعد الموت لا تزال أول من يستيقظ في البيت، وآخر من يأوي إلى الفراش، روحها تتصاعد في الليل مثل البخور. بداية الإبداع * ماذا عن العلاقة بالإبداع عبر جميع المراحل الدراسية؟ - في المرحلة الابتدائية لا تزال في ذاكرتي ساحة المدرسة المطلة على الحقول البعيدة في القرية، أجل كنت ملتحفاً بالحياء أكثر من اللازم، لكن مشهد السنابل يدعوك للغناء العذب، ويحررك من مخاوفك. في المرحلة المتوسطة كنت مدججا بالأسئلة، والرغبة الجارفة في التحليق بها إلى فضاءات أوسع، هاجس الشعر وكائناته المعلقة في المدى كانت قد بدأت تستبدّ بي، وقرأت دواوين شعراء المهجر، تلك القصائد التي كانت تمجد اللغة بلذة باذخة، وتثير كثيرا من الاستفهامات حول الوجود والحياة. كنت أحشد كثيرا من الأسئلة الأدبية لمعلم اللغة العربية، والوجودية لمعلم التوحيد، بعد ذلك كانا هذين المعلمين من أقرب الناس لي، ولم تزل تربطني بهما علاقة حميمة إلى اليوم. تقطيع عَروضي * متى بدأت الكتابة الشعرية؟ - بدأت أكتب قصائد عمودية وأسلمها لمعلم اللغة العربية في المعهد العلمي محمد عبده شبيلي، الذي كان يقوم بكتابة ملاحظاته عليها، هذا المعلم أذكر أنني طلبت منه رباعيات الخيام (ترجمة رامي) فكتب لي أكثر من مائتي بيت بخط يده، وجاء بها لي في اليوم الثاني، هذا الأنموذج النادر من المعلمين بدأ يتلاشي في مؤسساتنا التعليمية، وشغفت بالعروض آنذاك وإيقاعاته التي كنت أهذي بها، وكانت بحور الخليل أصدقائي الحميمين في تلك الفترة، لدرجة أنني كنت أقطّع عروضيا لا الشعر فحسب، بل حتى أسماء المحلات التجارية، وكل حديث بين الأصدقاء. أما المرحلة الجامعية فشكلت تحولا مفصليا في حياتي، كنت أنشر نصوصي العمودية الأولى في ملحق الندوة الأدبي في منتصف الثمانينيات وما بعدها، حين كان مشرفا على الملحق الأدبي آنذاك الراحل محمد موسم المفرجي، وكانت لي فرصة المشاركة في مهرجان الشباب الخليجي الثالث للشعر والقصة في أبها، كان معنا ممن أذكرهم الدكتور حسن حجاب، والناقد حسين بافقيه، والشاعر محمد عابس، والروائي يوسف المحيميد، وكان من الحاضرين محمد القشعمي الذي رشحني للمشاركة ممثلا وحيدا للشعر السعودي في مهرجان الشباب العربي السابع في الخرطوم في العام 1987، وكان من ضمن المشاركين معنا زياد (الدريس) المندوب الدائم للمملكة العربية السعودية لدى منظمة اليونسكو في باريس. أصدقاء المرحلة * من تتذكر من أصدقاء المرحلة؟ - من ضمن الأصدقاء في تلك الفترة الجامعية الشاعر عيد الخميسي، والروائي محمود تراوري، والروائي عواض العصيمي، والشاعر هاشم الجحدلي، والشاعر الشعبي محمد النفيعي، وكان الشاعر محمد الثبيتي يسكن في مكة، وكنا نحرص على زيارته أيام الخميس والجمعة، وكان يستمع لنصوصنا بكل محبة وأريحية، كانت فترة توهج للنادي الأدبي في جدة آنذاك، وصحيفة عكاظ بملحقها الذائع الصيت «أصداء الكلمة»، عرفت في النادي حسين بافقيه، ومسفر الغامدي، وعبدالله باهيثم، وآخرين. وفي صحيفة عكاظ سعيد السريحي، وعبده خال، وعبدالمحسن يوسف، وأحمد عائل فقيه، والراحل محمد الطيب. كانت مرحلة ألق معرفي، حيث وجدت الكتب التي كنت أحلم بها، وكانت مكتبة الشاعر محمد الثبيتي عامرة بالكنوز، كان لا يبخل علينا، لا أنسى أنني استعرت منه ديوان الشاعر والمترجم العراقي حسب الشيخ جعفر. كانت الكتب شحيحة فنضطر لتصويرها على قلّة ذات اليد. حتى اللحظة لم تزل تلك الكتب مصورة في مكتبتي، أذكر منها «ليلة القدر» للطاهر بن جلون، و»في معرفة النص» ليمنى العيد، و»ورقة البهاء» لمحمد بنيس، و»وردة الوقت المغربي» لأحمد المديني، وكتب الجابري وأدونيس، بالإضافة لدواوين الشاعرة فوزية أبو خالد، وعبدالله الصيخان، وغيرها. تحولت إلى كتابة قصيدة التفعيلة عندما شعرت أن خطابي في العمودية بدأ يكرر نفسه، هذا التحول جاء في فترة كان يمر بها المشهد الثقافي في السعودية بتحولات مفصلية، وظروف غاية في الحساسية، بعد صدور كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام»، والشريط المعروف، تلقّت التجربة الجديدة آنذاك ضربات تحت الحزام، ولم يكن نزالاً نبيلاً. بدأت أنشر في ملحق الرياض، وصحيفة اليمامة، وفي عكاظ، وفي ملحق اليوم، نشرت في صحيفة الوطن الكويتية، وفي مجلة اليوم السابع التي تصدر من باريس، وكان يشرف عليها الشاعر اللبناني عيسى مخلوف. تلك الفترة برغم الصدامات والمواجهات بين ما يسمى بالأصالة والحداثة، صنعت جيلاً كان يهتمّ بالتأسيس النظري، والتأصيل لكل آرائه، وكان كتاب «الموقف من الحداثة ومسائل أخرى» من الكتب التي أعطت للشعراء وكتاب السرد بعدا معرفيّا لتوجهاتهم الجديدة. ضمد.. الفاتنة * ما مدينتك التي أنت مُدانٌ لها؟ - شرّقت وغرّبت كثيراً، لكن، ضمد هي المدينة التي ترهق المعنى، وتحتفي بآخر عشاقها المبلّل بالغواية. هذه الفاتنة تحتاج إلى ساحر يحتويها في قبّعته، ثمّ يخرجها طائراً من غير سوء. هي مكتوبة في رواق القلب، الذي عبره الأسلاف يوماً إلى العدم، وهي تنتظر أن يعودوا إلى الدار، غداً، أو بعد غد!
* ما أول كتاب اقتنيته؟ - «روبنسون كروزو» هذا الكتاب الذي وجدته صدفة في مكتبة المدرسة في المرحلة الابتدائية، دون أن أعرف آنذاك عن قيمته المعرفية، لمؤلفه دانيال ديفو، والعمل يعد من أعظم القصص في تاريخ الأدب الأوروبي، وهي تشبه «سد هارتا» للروائي هرمان هسه، وقريبة من عمل ابن طفيل «حي بن يقظان» في الأدب العربي. نشر صحفي * ما أول نص نُشر لك؟ - أول نص كان في صحيفة عكاظ منتصف الثمانينات الميلادية من القرن الفائت، وكنت أرى أنه لا يستحق لولا أن أحد الأصدقاء قام بإرساله، ووجدته منشورا، ثم توالت ممارسة الغواية. متى كان الحزن زادك والدمع منهلك؟ – دائماً أنا مباغت بالفجيعة والغياب، لذلك الدمع جزء من تاريخي المحمول في هودج الهزائم، لكن، غياب أمي كان أكثر الأحزان قدرة على ادّخار الجحيم. أول إصدار * متى كان أول إصدار؟ - أول إصدار كان عام 1996م ديوان «رويدا باتجاه الأرض»، عن مركز الحضارة العربية في القاهرة، يومذاك كنت برفقة الروائي عبده خال الذي طبع مجموعتين قصصيتين في الدار نفسها، والكاتب على مكي، وكان يفترض أن يطبع العمل في نادي جدة الأدبي، لولا ظروف شرحها لي رئيس النادي يومذاك عبدالفتاح أبو مدين في رسالة، مازلت احتفظ بها. حنين القصيدة * إلى أين يأخذك الحنين؟ - يأخذني الحنين صوب القصيدة؛ دائما نحاول أن نقارع بها الوحشة، لأنني يا صديقي لا أعرف شيئا أحترم به نفسي سوى الكتابة، هي من تستطيع الاحتيال على العدم، بتحدّ فاجر، وتكتب مجدها بحبر الشهوة، معها نحلم بغيمة لا ترهن أمطارها، وعصافير تسخر من جبروت الأعالي، بالكتابة لن نكترث للثقوب الكثيرة في قميص الليل.