ثمة شعراء لا تشي قصائدهم بغير اللغة. ولا تشي لغتهم بغير المفردات والتراكيب التي تقودهم اليها "الشطارة" التأليفية وحرفة الكتابة. وثمة شعراء آخرون ينهضون بالكتابة نهوض الشجرة من جوف الأرض وتتدلى قصائدهم على جذوع أرواحهم بتلقائية الثمار على الأشجار. وأغلب الظن ان أحمد فرحات هو من هذا الصنف الأخير الذي يتحد بشعره اتحاد الماء بصلصال النبع. والذين تابعوا بواكيره الأولى في ملحق "النهار"، أوائل السبعينات من القرن المنصرم، يحفظون له ذلك الألق الموار الذي كان يسيل من قصائده سيلان الجداول الصغيرة في الشعاب والمفازات. لم يكن الشاعر يومها معنياً بتوضيب اندفاعه الفيضاني الذي غالباً ما كان يغطي مساحة صفحتين اثنتين من الملحق الثقافي، أشرف عليه في تلك الحقبة الشاعر اللبناني أنسي الحاج، بل راح يضع نفسه في مجرى الكتابة كما لو أنه يريد أن يغرق تماماً في النهر الذي حفره بيديه. كنت يومها من الكثيرين الذين أخذتهم الدهشة من هذه التجربة التي لا تقيم فاصلاً يذكر بين اللغة والعصب أو بين الكلمات ودورة الدم والذين رأوا فيها مجانسة نادرة بين الحياة وظلالها في اللغة، كما هو الحال مع عروة بن الورد ومالك بن الريب وديك الجن الحمصي وصولاً الى بدر شاكر السياب. ومع ذلك فلم يكن تأخر صدور "منحدرات"، كتاب أحمد فرحات الشعري الأول، سوى تعبير عن المغالبة المضنية التي تدور في أعماق الشاعر بين شعرية النهر وشعرية المنحوتة والكلام المضمر. لكن ما فاجأنا جميعاً بعد ذلك هو انصراف الشاعر عن قصيدته المدونة واكتفاؤه بالهجوم على الحياة التي اعتصرها بجسده وروحه حتى الثمالة. في سلوك فرحات بهذا المعنى ما يذكر بما فعله آرثر رامبو حين تخلى باكراً عن الشعر ليضرب في أصقاع الأرض بحثاً عما يقيم الأود أو يهدئ جيشان الروح. وإذا كان الشاعر اللبناني أثرى الصحافة الثقافية العربية بعطاءاته ولمساته النثرية التي تضاهي الشعر وبترجماته اللافتة لنماذج من الشعر العالمي فلم يكن ذلك كله ليتحقق إلا على حساب نتاجه الشعري الذي انتظرنا صدوره طوال عقدين من الزمن. وبصدور مجموعته الشعرية الأخيرة "جلود الأساطير" اتحاد الكتّاب العرب، دمشق يعود ابن القصيدة الضال الى أرضه الأم ومسقط ابداعه الأصلي. يعود فرحات هذه المرة بحلته الجديدة متخففاً من سيلان اللغة وهدير الانشاد وسطوة التدفق النهري. كأنه بذلك يكتفي من النهر بالينبوع ومن الثمرة بالنواة ومن اللغة بالإشارات والتعازيم. إلا أن ما يحتفظ به من بواكيره هو سطوة الصورة وقوة المعنى البدائي للأحاسيس والمدركات. وربما كان هذا الأمر هو ما قصده تماماً في قصيدته المختزلة الى أبعد الحدود "عمى خاص" حين يقول: "ها إنني أشفق على فوضاي/ يبرق منها العمى/ وهي عالقة في الهواء/ مثل عاصمة مشقَّقة". فمقطع قصير كهذا قادر على التقاط جوهر التجربة الفرحاتية التي عرفت بعد طول عناء كيف تقلم فوضاها الى حدودها القصوى فيما يترنح الشعر بين العمى والإبصار وبين النجاة والهلاك. اللافت في شعر أحمد فرحات هو ابتعاده الواضح عن الذهنية والتجريد وافتتانه بكل ما هو ملموس ومشهدي وقابل للتمرئي. فالشاعر بدربته الطويلة ومساررته العميقة للمعنى يعرف كيف يتمثل ما ذهب اليه الجرجاني حول الفارق بين التوهم والتخييل. لذلك فهو لا يخضع الكتابة للكدح النظري أو التوليد العقلي الصرف، الذي يرى فيه غاستون باشلار وأداً لشرارة الانفجار الشعري التلقائي، بل يجترح عوالمه من تمازج ألوان وتفجر أمزجة وتعاقب مفارقات. كل صورة لديه قابلة للتجسد في هيئة أو شكل وكل عبارة تحيل الى مصدرها في القلب أو الحواس بحيث نجد أنفسنا شركاء الشاعر في رتق الصور وتحويلها الى حضور مشهدي، كما هو الحال على سبيل المثال في قصيدة "العمر الثاني" المهداة الى أنسي الحاج: "كانت يده شجرة/ ثم خشباً أحمر/ يترجم الأسقف الداخلية للبيوت الشتائية/ نجلس في دفء حبها الملتقط/ ونمارس النزهة في النبيذ القديم/ ليس كما تدري النار". ثمة في هذا الشعر ما يصيبنا بعدواه وما يجعلنا نتلبس حالات الشاعر المختلفة لنصبح حلفاءه في السعادة والألم، في الاقامة والتجوال. انه شعر يخزنا بشوكة الكلمات الحنون ويحملنا الى حيث تقع الحادثة أو ترتسم اللوحة أو تنتحب الحياة. لا ننتبه هنا الى غياب الايقاع الخارجي الذي يقتات من طبول الموسيقى وصنوجها الظاهرة أو الى أننا أمام ما يعرف على سبيل الاصطلاح بقصيدة النثر. ذلك ان الشعر الحقيقي كالجمال أو الحب أكبر من شكله وأكثر سعة منه. والقارئ لنصوص أحمد فرحات يشعر أنه مترع بذلك النوع من الموسيقى الذي تولده نشوة المكابدة وجمالية الانسجام. تماماً كما لو أن الكتابة سرير آخر يهدهد طفولة العالم ويحملها فوق خشب الندامة الحريري. كل شيء في حال طيران شبيهة بما يحدث لنا في الأحلام. المرأة بدورها حضور أثيري يطير فوق الأعشاب المتصلة بالأرضي اتصالها بالسماوي: "حين تمشين عليها/ أعشابّ تنفي دوسك الباذخ لها/ كما تنفي انشقاقها عن متابعتك/ وأنت تبتعدين". عند أحمد فرحات ليست المراكب وحدها هي الضيقة، كما عند سان جون بيرس، بل الأماكن والبيوت ومسقط الرأس. لذلك فهو يجوب الآفاق والجهات بحثاً عن موطئ لأقدامه الضجرة وجسده المتبرم وروحه القلقة. وليس من قبيل المصادفة أن تذيل القصائد بتواقيع مكانية مختلفة باختلاف الأزمنة نفسها بدءاً من دبي والشارقة ورأس الخيمة وصولاً الى كريت وماليزيا والمكسيك واسبانيا وهاواي وهونغ كونغ. غير ان جغرافيا الشاعر الجديدة لم تعد جغرافيا سياحية محضة كما كانت في البواكير، بل هي تجليات مختلفة لجغرافيا الروح الشهوانية التي تريد أن تقطف الفتنة الأرضية من أماكنها الأم وتحيلها الى غناء كوني. فقد يتحول المكان الى أرض باردة ومثخنة بالصقيع كما في هونغ كونغ حيث "أنت في الطوابق العليا دوماً/ وإن كنت على الأرض/ الصباح نصف مفتوح/ ولا أحد يستقبله غيرك أيها الشاعر". وقد ينضح بنشيجه الداخلي المضفور بالرُّقَم والأساطير والتعازيم أو "بالنار الهرمة في النحاس" كما في المكسيك: "روِّ ما شئت قلبك/ بعالم لا يشبه ما تعرف/ وادخل حدوداً مموهة بخط السماء السابقة/ فالمكسيك أيضاً فرادة ألم حجري/ تميمة تلتهم أشعتها المحفوظة". مرثية من نوع آخر هي مجموعة "جلود الأساطير". مرثية العلاقة بين الإنسان ونفسه، بين الروح التي يتعاظم صهيلها المحموم والجسد الذي يلتف على كهولته خائراً من التعب، بين حطام الماضي الخرب ووعود المستقبل السليبة. وليست مرثية عبد الأمير عبدالله، صديق الشاعر ورفيق صبواته المهدورة، سوى تلويحة وداع طويلة لأرضٍ محروثة بالفقدان. على أن زخات من النشوة الكلامية تظلل كل تلك الأحزان. فالفراغ الناجم عن الخسارات تتكفل به لذة الكتابة ومتعة النص وتحولانه الى فردوس مستعاد بقوة الشعر وجموح الرغبات. يضيّق أحمد فرحات أخيراً المسافة بين الشعر وبين فنون التشكيل التي يساندها الرسم والخط واللون. وهو ما يحول الكثير من القصائد والمقطوعات الى لوحات تعبيرية خالصة: "ما أشهى منظر امرأة تمسح رقبة حصان/ انها في الفاصلة بين تأهب جسدها/ والفاكهة التي تود أن تكون". ليس غريباً إذ ذاك أن ينهد الشاعر الى "اللون المسطور" في أعمال الواسطي وخطوطه المرفوعة نحو سماء مسقوفة بالتضرعات.