في هذا الصباح كان الوقت متأخراً بعض الشيء قبل أن أبدأ يومي في المدرسة، وكنت أعتقد بأنني سوف أعاقب وأوبخ بسبب تأخري عن المدرسة كالعادة، حيث مدرسنا «مسيو هاميل» شدد علينا في مسألة الحضور والمواظبة، ومن البدهي أن يسألنا عن السبب الحقيقي للغياب، وبصراحة لم أكن أعلم ماذا سأقول له، للحظة قصيرة فكرت بأن أهرب من المدرسة هذا اليوم ولا أحضر وأن أذهب وأهيم على وجهي في الحقول الخضراء. كان هذا اليوم جميلاً ومشمساً، والطيور الجميلة أصواتها تشدو بها ضواحي البلدة الخضراء بمزارعها الغناء. وأرى خلفها الطواحين وهي تدور والمزارعين يحفرون ويحرثون حقولهم. كل تلك الأشياء كانت لحظتها منظراً رائع الجاذبية والجمال، أشد جاذبية من دروس المدرسة. وللحظة استجمعت قواي لأقاوم إغراء الطبيعة الخلابة وأسرعت بخطواتي إلى المدرسة. وعند وصولي إلى مقر البلدية في وسط البلدة، شاهدت مجموعة من السكان متجمهرين أمام لوحة إعلانات صغيرة يقرؤون الإعلان المعلق. طوال السنتين الماضيتين كانت الأخبار السيئة نقرؤها من خلال تلك اللوحة. كنا نقرأ هناك عن المعارك وخسائرها وما هي المطالب والمعاهدات التي تتم، و ما هي الأوامر التي تصدر من قيادات الحرب. ومع أنني لم أتوقف لوهلة مع أهالي القرية، تساءلت وقتها داخل نفسي: ماذا عسى أن يكون الحدث هذه المرة؟ وأثناء مروري وسط ساحة البلدة رأيت حداد البلدة «السيد واتشر» منهمكاً بقراءة لوحة الإعلانات وعندما لمحني قال لي: لِمَ العجلة يا ولدي؟ لديك المتسع من الوقت لتصل إلى مدرستك. أعتقد أنه كان يهزأ بي وكنت ألهث آخر نفس من شدة التعب عند دخولي إلى منطقة «مسيو هاميل» الصغيرة «المدرسة». والآن، عادة وعند بداية الحصة تكون هناك أصوات حشرجة وهمهمة والتي كانت تسمع حتى من على بعد الشارع الأمامي للمدرسة. وأصوات الطاولات تفتح وتغلق. وكنا نقرأ دروسنا بأعلى أصواتنا والجميع يتحدثون بأصوات عالية معاً. كل منا يحاول أن ينصت جيداً وعندها تسقط عصا المسيو الكبيرة على طاولته وتحدث صوتاً قوياً ثم يصرخ قائلاً: سكوت.. كنت أعتمد على أن أدخل الفصل وقت مراجعة الطلاب لدروسهم وسط تلك الضوضاء وأصل إلى طاولتي بدون أن يلاحظني أحد. ولكن هذا الصباح كان غريباً، حيث لم أسمع تلك الأصوات التي اعتدت أن أسمعها كل صباح. لقد كان الفصل هادئا وصامتاً وكأن هذا اليوم هو أحد أيام العطل الأسبوعية حيث لا يوجد أحد في المدرسة. نظرت من خلال النافذة فرأيت رفاقي يجلسون في أماكنهم ورأيت «مسيو هاميل» يمشي داخل الفصل ممسكاً بعصاه الحديدية الرهيبة تحت ذراعه. يجب أن أفتح الباب، يجب أن أدخل وسط هذا الهدوء العميق ولكنني كنت أخجل أن أفعل ذلك والرعب يجمدني. ولكن بدافع قوي كان يكفي أن أدخل الفصل حيث رآني «مسيو هاميل»، أخذ يتمعنني بنظراته بدقة، ولكن، لم أرَ نظرات الغضب على وجهه كما هي عادته في هذا الموقف، ثم قال لي بكل أدب: خذ مكانك بسرعة يا صغيري «فرانس» كدنا أن نبدأ الدرس بدونك.. ذهبت إلى مقعدي الخشبي وجلست عليه وأنا أكاد لا أصدق نفسي. وبعد أن أفقت من رعبي ودهشتي لاحظت أن «المسيو» قد لبس معطفه الأخضر الجميل وأفضل قمصانه، ويرتدي قلنسوته المطرزة التي يلبسها فقط أيام التفتيش أو أيام توزيع الهدايا في المناسبات. لاحظت أيضاً مدى الرزانة المحيط بجو الفصل وزملائي الطلاب على غير العادة، ولكن المفاجأة الكبرى هذا اليوم حدثت لي عندما ألقيت بنظري على المقاعد الخشبية في الجانب الآخر من الفصل والتي عادة تكون خالية، ولكن هذا الصباح مزدحمة بأهل البلدة ويخيم عليهم الهدوء مثلنا تماماً. وكان «السيد هاوسر» يجلس معهم أيضاً مرتدياً قبعته الثلاثية الأبعاد ومعه العمدة الموقر وساعي البريد العجوز وجميع الشخصيات الهامة في بلدتنا. ساد على جميع زوار المدرسة هذا الصباح الحزن، وكان مع «السيد هاوسر» كتاب قديم متآكل من الأطراف من شدة قدمه واضعاً ذلك الكتاب على ركبتيه ويقرأه مرتدياً نظارته الكبيرة. بينما كنت أنا مندهشاً من تلك المشاهد، أخذ «المسيو هاميل» مقعده المعتاد خلف طاولته أمامنا وبنبرة حزينة ورقيقة كالنبرة التي حياني بها عند دخولي الفصل قبل قليل، وقال لنا: أبنائي.. هذا اليوم سيكون اليو الأخير الذي سوف أدرسكم فيه.. لقد أتت الأوامر من «برلين» بأنه من الآن فصاعداً وفي جميع مدارس مقاطعتي «الساك» و «لورين» ستكون جميع الدروس تعطى باللغة الألمانية بواسطة مدرسين ألمان فقط بدلا من لغتنا الأم الفرنسية. ومدرسكم الجديد سوف يصلكم غداً. أما اليوم فسوف تستمعون إلى آخر درس تأخذونه باللغة الفرنسية، وأتمنى أن تكونوا مصغين أثناء الدرس الأخير هذا.. آخر درس لي باللغة الفرنسية؟ وأنا أجد صعوبة في الكتابة؟ والآن لن أتعلم لغة أهلي وبلدي. لقد توقف تعليمي هنا، لن أتعلم لغتي، كم هذا قاسٍ، كم أحقد على نفسي في هذه اللحظة لأنني كنت أضيع وقتي بعيداً عن المدرسة وأنا أطارد العصافير في الحقول أو شيئاً سخيفاً من هذا القبيل. تلك الكتب الدراسية التي لطالما خلتهم في غاية الملل وعديمة النفع، كم كان حملهم ثقيلاً عليّ، والآن تبدو حصص القواعد والتاريخ واللغة وكأنهم وجوه أصدقائي القدامى ولا احتمل وداعهم. وكذلك بالنسبة «للمسيو هاميل» عندما أيقنت بأنه سوف يرحل ولن أراه بعد ذلك أبداً أنسى قسوته وضربات عصاه. يا للرجل المسكين، لقد كان هذا الدرس كحفل تكريمي له، حيث إنه ارتدى أفضل ملابسه. لقد عرفت الآن لماذا كان أهل البلدة مجتمعين في الزاوية الخلفية من الفصل. كان حضورهم في هذه اللحظة كاعتذار لأنهم لم يزوروه في المدرسة غالباً. لقد كانت طريقتهم للتعبير عن شكرهم لهذا الأستاذ الذي أفنى قرابة أربعين عاماً من عمره في خدمة تعليم أبناء هذه البلدة. كنت مشغولاً بكل تلك المشاعر التي كانت من حولي عندما نودي على اسمي، لقد حان دوري لكي أسمع درسي، آهٍ، ماذا سأقول؟ أو بالأحرى ما هو الدرس أساساً؟ هل أقول ما يجول بخاطري أم أقول قاعدة الأفعال التي لا أحفظ شيئاً غيرها؟ بدأت أقرأ ما وصلنا إليه في الحصة الماضية بصوت عالٍ بدون انقطاع، ولكن بعد عدة كلمات أصبحت متورطاً حيث نسيت باقي الدرس، وبقيت واقفاً أمام طاولتي أترنح من جهة إلى أخرى، وأصبح قلبي يخفق وأتصبب عرقاً من الخجل ولم أجرؤ على رفع رأسي إلى أعلى.. قال لي «المسيو»: يا صغيري «فرانس»، لن أوبخك.. فالعقاب أكبر من أن أفعل ذلك الآن.. نحن نقول لأنفسنا في كل يوم «ياه، لدي المتسع من الوقت.. سوف أدرس غداً» والآن انظر إلى نتيجة ذلك. لقد فاتكم الكثير من الفرص لتتعلموا أشياء تفيدكم أنتم بحاجة لها الآن ومستقبلاً ولم تغتنموا فرصتكم التي ضاعت منكم بتأجيل علمكم إلى يوم آخر. وعندما يأتي الألمان الغرباء إلى بلدتنا سيقولون: «ماذا؟ مدرسكم فرنسي الأصل ولا تستطيعون القراءة أو حتى الكتابة بلغتكم الأم الفرنسية؟» يا للخجل.. لست أنت وحدك المعني بهذا الكلام يا بني.. وأعتقد بأن كلامي يعم الجميع.. وكل يأخذ نصيبه جزاء إهماله.. اهتمام أهلكم بتعليمكم لم يكن كفاية بل كانوا فقط مهتمين برؤيتكم تعملون وتحرثون الأرض بما أن ذلك سيعود عليهم ببعض المال وأنا هنا ليس لدي أية كلمة مناسبة لتوبيخ نفسي.. هل كنت أرسلكم لتزرعوا حديقتي عندما يكون لديكم امتحانات وواجبات منزلية؟ وإذا ما أردت أن أذهب للنزهة أو لصيد الأسماك، هل كان ضميري ميتاً حتى أفعل ذلك في وقت دوامي؟ موضوع وراء موضوع و«المسيو هاميل» بدأ يتحدث عن اللغة الفرنسية قائلاً بأنها أقوى وأوضح وأجمل لغات العالم، ومن الواجب علينا أن نحافظ عليها كجزء من تراثنا ولا نرضى لها أبداً أن تنسى. وقال لنا إنه عندما تقع أية أمة تحت الاحتلال والاستعباد تتمسك تلك الأمة بالمفتاح الذي سيحررها من سجنها وهذا المفتاح لطالما تمسكت وحافظت على لغتها الأم. ثم أمسك «مسيو هاميل» كتاب القواعد وقرأ الدرس المقرر لنا، والحقيقة، لقد اندهشت كثيراً وقتها حيث لم أكن أتوقع أن أفهم درس القواعد بهذه السهولة والسرعة. وكل ما كان يقرأه لنا كان واضحاً جداً ولم أذكر في حياتي أنني قد استمعت إلى أي شخص باهتمام وفهم مثلما أنا أفعل الآن، ولم أرَ عليه سابقاً هذا الصبر والهدوء في شرحه للدرس. كان «المسيو هاميل» لحظتها بوده أن يفصح ويخرج كل ما في جعبته من معلومات ويدرسها لنا قبل أن يرحل، كان بوده أن يخرج ما في رأسه ويدخله داخل رؤوسنا خلال هذا الدرس الأخير. ثم اتبع «المسيو» درس القواعد بدرس الكتابة، وبهذه المناسبة جهز أوراقاً مطبوعة طباعة جميلة ومكتوباً عليها بخط اليد الجميل «فرنسا ألساي، فرنسا ألساي»، كانت تلك الكلمات ذات وحي خاص، خاصة عندما ننظر إلى العلم المربوط بالعصا الصغيرة على حافة أدراجنا. لقد كان المنظر هادئاً وجميلاً، وقتها لم نسمع أي صوت بإمكانه أن يطغى على صوت خربشة أقلامنا على الورق سوى أصوات هديل الحمام الزاجل من على سطح المدرسة. فقلت في نفسي من المؤكد أن تلك الطير المسالمة سوف تجبر غداً على الهديل باللغة الألمانية قسراً مثلنا. من وقت لآخر، وعندما أرفع ببصري من على الورقة، أرى «مسيو هاميل» جالساً على مقعده بدون حراك، وعيناه مسترسلتان في أنحاء الفصل وكأنه يريد أن يشبع أنظاره بكل ما هو موجود في الفصل قبل أن يرحل. يتذكر بأنه لمدة أربعين عاماً وهو يعمل في هذه المدرسة في هذا الفصل بالذات وأمامه نفس الفناء المطل عبر النافذة، لم يحدث للفناء الكبير تغيير يذكر خلال تلك السنوات. ومن كثرة الاستخدام محيت ألوان الطاولات والمقاعد الدراسية، ونمت أشجار خشب الجوز في الفناء وأصبحت أشجاراً عملاقة. وشجرة العنب التي زرعها بنفسه امتدت عرائشها حول النافذة وأخذت تمتد إلى أعلى السقف أيضاً. يا له من شعور كئيب، ذلك الشعور الذي اعترى قلب ذلك الرجل المسكين حين يفكر بالرحيل عن كل تلك الأشياء الحالمة والجميلة، ويسمع صوت وقع أقدام أخته في الطابق العلوي وهي تمشي ذهاباً ومجيئاً تحزم الحقائب استعداداً للرحيل خارج البلاد يوم الغد صباحاً بدون عودة بينما رباطة جأشه وكبريائه لم يتداعيا ولم يلغ أي درس خلال هذا اليوم الكئيب. بعد درس الكتابة جاء دور درس التاريخ ثم بعد ذلك نشد الصغار أنشودة صغيرة معا. وفي خلف الفصل وضع «السيد هاوسر» الموقر نظارته وهو يحمل كتابه بيديه ويتهجى حرف كلمات الأنشودة مع الأطفال. لقد كان منهمكاً في القراءة معهم. كان لصوته حشرجة مؤثرة وكانت في نفس الوقت مضحكة حيث كان بود الجميع أن يضحك ويبكي في نفس الوقت. آهٍ.. لن أنسى ذلك اليوم «يوم الدرس الأخير» مهما حييت. فجأة دق جرس المدرسة الساعة الثانية عشرة ظهراً، وفي نفس الوقت انطلق صوت بوق عسكري بالقرب من النافذة معلناً بعودة الجنود الألمان من تدريباتهم اليومية. نهض «مسيو هاميل» من على مقعده وكان شاحب الوجه، ولكن لم يكن يبدو لي بهذا الطول من قبل مثلما أراه الآن.. أصدقائي.. قائلاً.. أصدقائي.. أنا.. أنا.. ولكن تعثرت الكلمات في فمه وأحس بغصة منعته من الكلام ولم يستطع إكمال جملته، بعدها أخذ قطعة من الطباشير وأمسكها بقوة بين أصابعه وكتب على اللوحة السوداء بخط عريض وواضح «تحيا فرنسا.. تحيا فرنسا». بقي «مسيو هاميل» واقفاً أمام اللوحة بعد انتهائه من الكتابة وأرخى يديه على الحائط، ولم يتحدث مجدداً ولم ينظر إلينا، ولكن بحركة من يده صاحبت كلمته الباكية قائلة لنا: «هذا كل شيء لهذا اليوم، لقد انتهى درسكم الأخير.. انصرف أيها الفصل». *» قصة قصيرة من الأدب الفرنسي للكاتب الفرنسي: ألفونزي داوديت «1840 1897م».*»