سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مستكي مشتكي مستقي مصطفى ... فرنسي مصري يوناني ومتوسطي . جورج موستاكي : الاسكندرية سيدتي الفاتنة لا أنسى بحرها ومغامرات الطفولة أما بيروت ... فأين هي تلك المدينة المتوسطية من زمنها السعيد ؟
في حديقة بلدية أوتاوا وسط المدينة أحيا المغني جورج موستاكي حفلاً غنائياً استمر ساعتين أمام جمهور تجاوز الثلاثة آلاف. أُعجب الجمهور الكندي الفرنسي بقوة هذا الفنان الشاعر بعد أربعة عقود من انطلاقته في فرنسا. ولكن وسط هذا العرض سرق موستاكي بضع دقائق بعيداً من الفرنسية وانطلق يغني بالعربية "هواك يا اسكندرية" بلهجة مصرية أصيلة، ما صدم الفرنسيين الذين استغربوا - بإعجاب - اللغة التي غنى بها موستاكي - وهي طبعاً ليست الاسبانية مثلاً، وكذلك بعض اللبنانيين الذين فوجئوا بغنائه بالعربية. ولكن بقي السؤال عن هذا الفنان اليوناني الذي غنّى ردحاً طويلاً من الزمن بلغة فولتير واحتفظ في ذاكرته بأصول عربية تعود الى اقامته في الاسكندرية. "عدت الى الاسكندرية" في باريس ومونتريال، هذا الصيف أصدر موستاكي كتاباً بالفرنسية في عنوان "من بنات أفكاري"، فيه الكثير من التفاصيل عن جذوره المصرية وتعلّقه باللغة العربية: "العودة الى الاسكندرية: رجعت الى الاسكندرية بعد عشر سنوات من الاقامة في باريس. كنت دائماً أؤجل العودة الى مدينتي. كنت أخاف من عاطفتي الشديدة تجاهها أو من خيبة الأمل. كنت أخاف أن يعتقد أهلها انني خواجة أجنبي أو "مسيو" أو مجرد سائح يبتسم بغباء ويخاطبه المصريون باللغة الانكليزية. أنا الفخور جداً بأنني أتكلم اللغة العربية بنكهتها المصرية الأصلية وبطلاقة، ما إن جلست في المنزل المطل على البحر حتى عادت إليّ مغامرات طفولتي وأيقنت هباء مخاوفي" ص151. ويتابع موستاكي: "كان جارنا المطرب محرّم فؤاد مشهوراً جداً في مصر وكان يرافقني كل يوم لنزور الأحياء، وعندما توقفنا في سيارة المرسيدس لزيارة منزلي الذي ترعرعت فيه تجمهر حولنا الناس وصفقوا لي وله. ولكنهم عرفوه أكثر مني بسبب شهرته. وخرج صاحب المقهى يحيينا ووضع الكراسي والطاولة وأحضر القهوة التركية والنارجيلة، فيما النسوة يزغردن. وتبرع دكان قريب بقالب غاتو كبير. ودعاني سكان بيتي القديم لزيارتهم وأكدوا لي أن في امكاني أن أبقى معهم كلما جئت الى الاسكندرية. وسألني محرم فؤاد: هل تريد أن تغني في الاسكندرية؟ وفكرت بالموضوع... أنا أغنيها في حفلاتي دائماً ولا أنساها أو أنسى بحرها... ولكنني لن أغني أمام جمهورها فهي ما زالت سيدتي الفاتنة". ويقول موستاكي في الصفحة الأولى من الكتاب انه وُلد في الاسكندرية عام 1934 من عائلة مصرية - يونانية. ولعله ليس المتفوق الوحيد المصري من أصل يوناني. فقد سبقه الشاعر الاسكندراني الكبير كفافيس المُترجَم الى أكثر من 30 لغة والذي تفتخر به اليونان - على رغم أنه مصري - بأنه أهم شاعر يوناني في القرن العشرين. كما أن ديميس روسوس مصري - يوناني أيضاً. أما مقاربة الموضوع من زاوية فرنسا، فالساحة الفنية الباريسية تعبق بمطربين وفنانين معظمهم من أصول عربية ومتوسطية مختلفة. فإذا استثنينا البعض أمثال إديث بياف وجيلبير بيكو وشارل ترنيه سنجد لائحة طويلة من غير الفرنسيين أمثال الأرمني شارل أزنافور يان، والمصرية داليدا والايطاليين إيف مونتان أيفو ليفي وسرجيو رجياني، واليونانية نانا موسكوري، والاسباني أدامو والبرتغالية ليندا دي سوزا، والجزائري إنريكو ماسياس. اضافة الى العشرات الذين اتخذوا من باريس مركزاً وغنوا بغير الفرنسية أو أبدعوا في الكتابة. موستاكي أم مصطفى؟ يخصص موستاكي فصلاً من كتابه عن أصول اسمه فيقول: "كنت أتابع دراستي الثانوية في مدرسة "الليسيه الفرنسيه" في الاسكندرية وكان التلامذة يسخرون من اسمي ويحولونه الى موستاش "أبو شارب". ولكنني أعتقد ان أصل الاسم يعود الى جزيرة كورفو اليونانية وربما كان أساساً موستاشي بالايطالية. وبالتركية يمكن أن يكون أصل الاسم مصطقي أي مصطفى، أو مشتاق بالعربية أو مستكة وهو اللبان في دمشق. ويمكن أن يكون تصغيراً لكلمة مستقيم بالعربية". ويقول انه حصل على جواز سفر يوناني وان السلطات اليونانية أضافت حرف S في آخر اسمه ليصبح أكثر يونانية "موستاكيس". ويتذكر موستاكي عمه أفروم في الاسكندرية الذي مرّة فاجأه يدخن. وظن موستاكي انه سينهره كما يفعل أهله ويعاقبه. ولكن افروم قال له: "لا تدخن أبداً... من دون فنجان قهوة". ويصف موستاكي الاسكندرية في بداية الخمسينات قبل ثورة الضباط الأحرار بأنها كانت مدينة كبيرة يقطنها مليون شخص وفيها جنسيات متنوعة وجاليات عربية ويونانية وأوروبية ويهودية، وكانت "في قلب التاريخ البشري وخارج الزمن في آن" ص19 وكان والداه نسيم وسارة صاحبي مكتبة كبيرة في الاسكندرية حيث كان يقضي أوقاتاً طويلة بين الكتب يدرس. وكان بدأ باكراً مع قصص الأطفال "بابار" و"زورو" الى اندريه جيد وجان بول سارتر وفرانز كافكا. ويتحدث موستاكي عن الحرب العالمية الثانية والهجوم الألماني على مصر من ناحية ليبيا والغارات اليومية على الاسكندرية التي كانت موقعاً استراتيجياً للجيش البريطاني. وفي أيار مايو 1948 حدث التمزق بين اليهود والعرب في الشرق الأوسط "وأصبحت فلسطين ساحة عداوات قاتلة تحت الأنظار الساخرة لسلطات الانتداب البريطانية" ص 22. ويذكر موستاكي صداقته أيام الفتوّة مع الملك فيصل في العام 1947 أثناء زيارته الى الاسكندرية. كان موستاكي كعادته كل يوم يقضي وقته في الطابق السفلي للمكتبة كاتباً فروضه المدرسية ومطالعاً الكتب. وفجأة شاهد ولداً نازلاً على الدرج في مثل سنه - نحو 13 عاماً -. كان الولد يرتدي الملابس الفاخرة وكان مظهره مرتباً وشعره مصففاً. ويقول: "جاءني مبتسماً، ففرحت به وتصفحت معه كتبي المفضلة وبخاصة قصص المغامرات التي يحبها الأولاد. وعرضت عليه بعض الصور التي يتبادلها الأولاد في المدارس وكنت خبأتها داخل كتاب "بابار" للأطفال وضحكنا كثيراً معاً. ومرّ الوقت مع صديقي الجديد وفجأة سمعنا خطوات من السلالم وشاهدنا رجلين في ملابس عسكرية ملكية وقالا: يا صاحب الجلالة السيارة بانتظارك. وشاهدت صديقي بوجه جاد متجهم يخاطبهما حتى كدت أنسى ضحكاته الطفولية ومزاحه معي قبل دقائق. ونظر نحوي ومدّ يده مصافحاً وغادر المكان. وأسرعت لأسأل والدي عن هذا الزائر الصغير فقال: انه الملك فيصل. وكان هو زبوناً عند والدي. وكانت المرة الأولى التي أرى فيها ملكاً... ملكاً في مثل سني... بعد ذلك بسنوات علمت من الصحف أن في العراق انقلاباً وأن صديقي الصغير اغتيل". غادر موستاكي بلده مصر عندما بلغ الثامنة عشرة من العمر قاصداً باريس لمتابعة تحصيله الدراسي. ولتوفير مصاريفه عمل في بيع الكتب متنقلاً في الشوارع طارقاً الأبواب. وخلال فترة قصيرة عمل في صحيفة مصرية تصدر في باريس باللغة الفرنسية. وسرعان ما بدأت موهبته الشعرية تنتج قصائد لكبار نجوم باريس: بياف، باربرا، رجياني، داليدا، إيف مونتان، سالفادور، وغيرهم. وعلى رغم انه انخرط في الغناء باكراً إلا أن ألبومه Le Mژtڈque الصادر عام 1969 فتح أمامه أبواب النجاح الكبير. في بيروت "أمس حلمت بفتاة لبنانية التقيتها في بيروت. كانت جميلة جداً، عمرها 15 عاماً. كانت تجلس في المقاعد الأمامية. وهي الآن تعيش في باريس مثل غيرها من اللبنانيين الذين شردتهم الحرب الأبدية. إنها تعود أحياناً الى بيروت لتلتقي الأهل ومن تبقى في بلدها المعذب. انها تحب أن تزورني وتشرب الشاي فنتبادل الذكريات. وعندما أراها أتذكر مشاهد لبنان، الأرض التي تعبق بالحضارات والبحر والجبل والحياة المريحة القريبة من كل شيء، الأرض التي هي شقيقة بلدي الأم مصر باللغة والعادات والموسيقى والتقاليد القديمة والعطور والأضواء. من قال إن وراء هذه الصورة الجميلة ستكون أسلحة ودمار وخراب وكراهية. عاش الفلسطينيون في المخيمات بانتظار زمن طويل جداً لينتبه العالم الى مأساتهم. كانت فرصة لأزورهم فأخذوني الى مستشفى ومدرسة كمؤسستين ترمزان الى احتمال عيشهم بكرامة في بيئة معادية" ص 166. "بعد مغادرتي بيروت احتفظت بمفتاح فيلا يملكها صديق لبناني. وهو أصرّ على أن أحتفظ بالمفتاح وأن أعتبر الفيلا بيتي كلما زرت لبنان. وأنا أحتفظ بالمفتاح دائماً. في بعلبك تنشقت النسيم الصاعد من حقول الخشخاش وهذا ما أوحى إليّ أغنية تحيّي هذه النبتة... وفي دعايات وزارة السياحة اللبنانية هناك معلومات عن قلعة بعلبك ولكن لا شيء عن هذه النبتة التي يعرفها الناس في أنحاء الكرة الأرضية أكثر من قلعة بعلبك". ويضيف: "عشية حصولي على ميدالية في لبنان كتب صحافي لبناني عني أن أغنيتي عن نبتة الحشيش ستضر بسمعة لبنان وبخاصة أنها ممنوعة. وهكذا سحبت هذه الميدالية وحُجبت عني. غنيت في بيروت عام 1974. ولكن في العام التالي بدأت تصفية الحسابات التي ضحت بلبنان الجميل مصلوباً. أعطاني لبنان شعوراً رائعاً بالحياة في جنة عدن". ويقول موستاكي: "أول مرة غنيت في لبنان كانت عام 1971 وكانت أول حفلة في الشرق الأوسط. أحسست بأنني طفل من الاسكندرية غادر الى باريس وطاف دول البحر المتوسط ثم عاد الى جذوره الأصلية. إنني طفل من هذه المنطقة ضعت ثم وجدت طريقي بعد سنين الى الاصدقاء والعطر والطعم والذائقة في العلاقات. زملائي من "الليسيه الفرنسيه" في الاسكندرية يعيشون اليوم في لبنان البلد القريب من بلدنا مصر". ويخاطب بيروت قائلاً: "أين أنت يا بيروت من سنواتك السعيدة؟ في تلك الأعوام كنت أعلم أن الناس كانت تخبئ المسدسات في السيارة ولكن كان هناك حب للحياة. أين هم المراهقون الحالمون المثاليون الذين جاؤوا يسمعون اغنياتي في جبيل ويقدمون لي عقلهم وقلبهم وجملاً من كتاب جبران خليل جبران مقابل الفرح الذي أقدمه لهم في أغنياتي الشاعرية؟". بيروت: فسيفساء الشرق والغرب، مهرجانات أو أفراح الشاطئ بعد الحفلة، مع الموسيقيين مع حوريات البحر... التقيت بماري - تيريز عربيد من صحيفة الاوريان - لو جور، ولكنها لم تأت لوداعي في المطار. ماتت في حادث غبي - وقعت على السلالم في المبنى الذي تقيم فيه. صداقتنا تعود الى زيارتي الأولى واستمرت على رغم سنوات الحرب". ويستعيد صورة لبنان: "زرت لبنان مجدداً عام 1997 ولم يستقبلني وزير السياحة كما كانت العادة قبل 23 عاماً. وقال لي الفنانون لا يحتاجون الى جواز سفر"، فأُدخلنا الفرقة وأنا الى صالون الشرف من دون أن نبرز أي جواز أو بطاقة هوية. في ذلك المساء في آب اغسطس 1997 في جبيل جاء وزير السياحة وألقى كلمة طويلة مرحباً بي ولكننا لم نلتق ولم نتصافح بل اكتفى بأن يكون بين الحضور مجرد مدعو. أثناء عبوري في مناطق بيروت حاولت التعرّف الى المعالم التي أحببتها ولكنها اختفت وحلّت مكانها أبنية جديدة أو مساحات غير محددة أخفت وجه بيروت القديمة. ولاحظت طغيان الديانات في المناطق في الهندسة وفي سلوك الناس. هنا المآذن وهناك الأجراس. هل هذا هو التعايش السلمي؟ أين هو مركز المدينة؟ أين هو هذا اللبنان الذي كان مسالماً على رغم كل العنف في الدنيا؟ بحثت عن الفندق الذي نزلت فيه في زياراتي السابقة قبل الحرب ووجدت انه لم تبق منه سوى الواجهة المدمرة. كم من المرات شربت القهوة مع المعجبين ولم يخطر في بالي أي مصير أسود سيواجه هذا البلد. نعم في العام 1997 اعطوني جناحاً فاخراً مساحته 150 متراً، ولكنه بارد ويغطيه الرخام الغالي الثمن. ولكن أين هي الضيافة الحارة والعلاقة الانسانية التي عشقتها في زياراتي السابقة وهي لا يعوّضها الديكور الجميل؟ العشاء مع الأصدقاء أعاد إليّ مشاعري القديمة عن لبنان. بعد العشاء انطلقنا في الشوارع: الموسيقى وأصوات السيارات والضجيج... هذا أعادني الى الأجواء. ولكن حتى جبيل فقدت سحرها القديم فهي مملوءة بالأبنية الجديدة" ص 216. بعدما بلغ موستاكي المصري - اليوناني - الفرنسي - المتوسطي السابعة والستين من العمر ما زال في ربيع انتاجه. وأصدر حديثاً ألبوماً مزدوجاً فيه أغانٍ قديمة وجديدة بينها أغنية سياسية عنوانها: "على المعتدي أن يدفع التعويضات للشعوب المضطهدة". ما زال موستاكي ملتزماً قضايا اليسار القديم على رغم مرور الزمن، ونضال الشعوب الفقيرة. ولكن على رغم كلامه الكثير على حبه لمصر ولبنان والمتوسط فإن اعتناقه لغة فرنسا وثقافتها كان كاملاً الى درجة لا نرى تأثيرات مشرقية عربية في تفكيره أو في أغنياته أو حياته التي يصفها في هذا الكتاب. بل يكتفي بأنه "يحب أم كلثوم ويعشق التبولة والطعام اللبناني ويحن الى الاسكندرية". هذا ما اختاره جورج موستاكي: أن يكون ابناً وفياً لهوية جديدة في نظره هي "المتوسطية" والتي تجمع الاسبان والطليان والعرب والأتراك واليونانيين والفرنسيين. Georges Moustaki, Les Filles de la Mژmoire, Paris, Montrژal: Le Livre de Poche, 2001.