ظهر واضحاً منذ الأسابيع الأولى لإدارة بوش، عدم نيتها التدخل في التفاصيل الصعبة للسلام في الشرق الأوسط. وكان قرار فريق الأمن القومي للرئيس بوش بعد أيام من توليه مهامه، عدم ارسال مبعوث أمريكي الى طابا، في مصر، للمشاركة في محادثات الفرصة الأخيرة قبل انتخاب المتشدد ارئيل شارون كرئيس لوزراء إسرائيل. ومع تصاعد العنف مقارنة بالأشهر الأولى للانتفاضة الفلسطينية التي كانت معتدلة مع ما يجري اليوم من إراقة دماء فإن البيت الأبيض تلكأ في اعلان فريق جديد للسلام في الشرق الأوسط. وفي الاسابيع التالية، قامت الإدارة الأمريكية بفتح المجال في هذا الإطار من قبل وكالة الاستخبارات المركزية، والتي تملك سمعة جيدة كوسيط في شؤون الأمن بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبوضع نمط لدور أمريكي سطحي ومتقطع. وتبدو اليوم سياسة ترك النزاع بين الطرفين، بعد عامين من تبنيها، فاشلة وغير قادرة على انقاذ عملية السلام من الدوامة التي تدور فيها، ويدور معها الموقع الأمريكي في المنطقة. وبعد العملية الفدائية التي خلفت 22 قتيلاً إسرائيلياً خلال عيد الفصح اليهوي، تحطمت آمال بعض الأمريكيين في إنجاز وقف لإطلاق النار. ثم جاء تصريح شارون الأخير بأن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات هو «العدو»، ليتزامن مع اقتحام إسرائيل المقر العام للرئيس الفلسطيني في الضفة الغربية، ومهدداً في نفس الوقت باسقاط عرفات والسلطة الوطنية وكل ما توصلت اليه عملية السلام برعاية الولاياتالمتحدة في أوسلو منذ تسع سنوات. ان العنف الأخير أسقط آمال الشرق الأوسط بالسلام، والذي حمله المعتدلون الى القمة العربية الأخيرة وذلك مع عرضهم بإمكانية الاعتراف بإسرائيل. فحلفاء الولاياتالمتحدة من العرب برروا لها تصلبهم تجاه خطة الإدارة الأمريكية حيال العراق، وان قلقهم نابع من طبيعة الدعم الأمريكي لإسرائيل. إن الثمن الذي دفعته الولاياتالمتحدة كان باهظاً جداً. لكن القلق الحالي من ان يصبح الثمن أعلى بكثير فيما لو تورطت الإدارة الأمريكية بأي عمل داخل مسألة التسوية، وهذا ما أثقل كاهل موظفي الإدارة الأمريكية بالعمل لساعات طويلة خلال السنة الماضية وكان قرارهم بأن يكون تدخلهم ضئيلاً جداً. وكانت النتيجة ظهور سياسة تقوم في أحسن الأحوال على التذمر. مع التأكيد بالتزام الإدارة الإمريكية بشكل دائم على مهمة مبعوثها الخاص الى الشرق الأوسط، انتوني سي. زيني، وقرار نائب الرئيس ديك تشيني بعدم وجود برنامج للقاء الرئيس الفلسطيني خلال زيارته لإحدى عشرة دولة في الشرق الأوسط. إضافة الى ذلك، فإن موظفي الإدارة الأمريكية ركزوا مجمل طاقاتهم وتصريحاتهم على طلبات إسرائيل بخصوص الأمن. ولم يمارسوا أي ضغط على إسرائيل كي تقدم عروضاً آنية، مثل تجميد إنشاء المستوطنات الإسرائيلية، والتي يمكن ان تعطي عرفات الغطاء السياسي ليعالج فصائل المجاهدين داخل شعبه. وبالطبع فإن عدداً من المؤشرات السياسية ظهرت للضغط من أجل تدخل أمريكي اوسع واكثر فاعلية، خصوصاً مع عمل موظفين كبار في قسم شؤون الشرق الأدنى لوزارة الخارجية الأمريكية برئاسة مساعد وزير الخارجية ويليام. بي. بورنز، ومكتب التخطيط السياسي برئاسة ريتشارد. إن. هاس. لكن وزير الخارجية كولن باول حذر من الدخول في مغامرة بهذا الخصوص. وحسب موظف سابق في الخارجية فإن وزير الخارجية «لا يستطيع تحمل تعريض نفسه للخطر أو مجابهة فشل أي مهمة له في الشرق الأوسط، فخصومه سيستغلون ذلك. فهو ممتنع تماماً عن المحاولة». إن بعض هؤلاء الخصوم موجودون في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، حيث يوجد موظفون كبار لديهم تحفظات من التدخل في الشرق الأوسط، خصوصاً إذا كان هذا الأمر يعني تجاوز شارون. فديك تشيني ووزير الدفاع دونالد.إتش. رامسفيلد أوضحا نفورهما من التعامل مع الفلسطينيين. والعديد ممن ينتقدون عرفات في واشنطن موجودون في هذا الفريق، بما فيهم الوكيل السياسي لوزارة الدفاع دوغلاس. جي. فيث، ومستشار ديك تشيني الأول لشؤون الشرق الأوسط جون هاناه. وفي تقرير للصحيفة الإسرائيلية «يديعوت احرانوت» نشرته في شهر شباط الماضي، ان ديك تشيني اخبر وزيرالدفاع الإسرائيلي، بنيامين بن اليعازر، خلال زيارته لواشنطن بأنه لن يهتم حتى ولو شنق الرئيس الفلسطيني نفسه. ومع افتراض ان الرئيس الفلسطيني غير أهل للثقة، فإن هذا المعسكر لا يرى سوى هامش قليل في دعم الجانبين للوصول الى طاولة المفاوضات من جديد. والأمر الأفضل حسب إدوارد.إس. ووكر، مساعد وزير خارجية سابق لشؤون الشرق الأدنى، هو عدم القيام بأي عمل وترك شارون كي يهتم بهذه المسألة. من جانب آخر حذر كارل روف، المستشار السياسي الأول لبوش، من مواجهة مع شارون، وذلك بسبب معرفته للأخطار التي يمكن ان يواجهوها محلياً من أنصار إسرائيل. كما ان مستشارة الأمن القومي كونوليزا رايس تبدو مترددة في التعامل مع المنطقة حسب مصدر مقرب من البيت الأبيض. وعملياً فإن مستشارة الأمن القومي تبدو بدون أي مدير يوضح لها النزاع العربي الإسرائيلي، وذلك منذ ان ترك بروس. او. ريدل البيت الأبيض أوائل الشتاء المنصرم. إن أركان السياسة للرئيس بوش يزدرون سياسة الرئيس السابق بيل كلينتون. فمنذ بداية ادارة بوش اعرب موظفون كبار وبعض حلفائهم من خارج الحكومة عن رأيهم بان تدخل الرئيس كلينتون الشخصي لتحقيق السلام كان يعبر عن طموح زائد، خصوصاً خلال قمة كامب ديفيد في شهر تموز 2000، حيث اعتبروها مسؤولة عن الانهيار الحالي في الشرق الأوسط. هذه العداوة تحدث عنها قبل شهر المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض آري فيشر عندما قال: بإمكانك ايجاد وضع تصوب فيه نحو القمر دون ان تجني أي شيء، والنتيجة مزيد من العنف وهذه هي نتيجة أي محاولة لدفع الأطراف بعيداً عن رغباتهم، وهو ما يقود الى دورة من العنف أقوى من سابقتها، وهذه الصراحة الخارجة عن مألوف الديبلوماسية اضطرت فيشر للاعتذار لاقحا عن هذه التصريحات التي قدمها أمام عدسات التصوير. بعض المصادر العائلية تحدثت عن ان بوش يتصل بوالده يومياً، وذلك بصفته رئيساً سابقاً دخل بعمق المفاوضات في الشرق الأوسط، وظهر مؤتمر مدريد خلال فترة حكمه، لكنه لم يستطع تكوين صورة واضحة من خبرة بوش الأب ونصائحه لابنه باتباعه نفس الطريقة في التعامل مع هذا الملف. وفي بعض الأحيان يتحدثان حسب نفس المصادر السابقة عن صحة الرئيس السابق «بوش الأب»، ولكن الشرق الأوسط يأتي فوق كل المواضيع التي يتحدثان عنها، وفي هذه الحالة فإن الأب يتنحى جانباً كي لا يظهر بأنه يشد على كتف ابنه. إن الكثير من الإدارات المهتمة بشؤون الشرق الأوسط تتمنى التعامل بمسائل الأمن الأمريكي التقليدية، والاهتمام بالشؤون الاقتصادية والعمل مع الملوك والأمراء والرؤساء بدلاً من الانخراط في أعمال مع حالات غير ثابتة مثل الإثارة التي يحملها الفلسطينيون والإسرائيليون. وأخيراً عندما قام بوش أمس باستشارة بعض زعماء العالم حول الشرق الأوسط، فإنه تحدث الى ولي العهد السعودي الأمير عبدالله، والرئيس المصري حسني مبارك، وملك الأردن عبدالله الثاني، اضافة لسكرتير الأممالمتحدة كوفي عنان ورئيس الوزراء الإسباني جوزي ماري أزنار. ولكن سقط من هذه القائمة كل من شارون وعرفات. موظفو الإدارة الأمريكية يعيقون عمليا الاقتراح الذي تم تقديمه للجانب الفلسطيني، فهم يعتبرون ان إدارة بوش هي الأولى التي صادقت على تأسيس الدولة الفلسطينية. الجهات الرسمية الأمريكية تستحضر بشكل دائم توصيات اللجنة الدولية التي ترأسها عضو مجلس الشيوخ السابق جورج. جي. ميتشل. حيث دعا ميتشل قبل عام بوقف غير مشروط للعنف وان يتبادل الجانبان ترتيبات إعادة الثقة، مع ضمان تجميد الاستيطان، والبدء بمفاوضات الحل النهائي لعملية السلام. وتركت مسألة الوقت واهميته لترتيبات الجانبين معتمدة على التطبيق المتسلسل للطرفين لهذه التوصيات. وأضافت حكومة شارون فترات انتظار اضافية ومقاييس جديدة للتعامل مع التوصيات وفق ادوات وخطوات سياسية. ووقعت إدارة بوش فوراً على الترجمة الإسرائيلية لهذه التوصيات. إن أي طموح جديد للولايات المتحدة يجابه بعقبات جدية في المنطقة. وهذا يشمل شارون، الذي عارض اتفاق اوسلو للسلام، كما يشمل الجمهور الإسرائيلي الذي بات مقتنعاً بعد انتشار العنف في نهاية عام 2000، بأن الفلسطينيين غير مهتمين بالتسوية. وعلى الجانب الآخر هناك الهياج الفلسطيني من استمرار الاحتلال وعمليات الإذلال، والمترافقة مع تعبئة للأجيال العربية والتعامل مع الموضوع بشكل ذاتي عبر حمل السلاح. إن إدارة بوش لاحظت كل الإشارات التي تجعلها متهيبة من دخول هذا التحدي. ويبدو هذا في عمل كولون باول، الديبلوماسي الأول في إدارة بوش، فهو زار الشرق الأوسط مرتين خلال دورته الحالية. حيث ركزت جولته الأولى على العراق. وتوقف ليلة واحدة في القدس ليرى شارون وعرفات، مردداً دعواته للتهدئة وبأنه لن يعود اذا لم يلمس تحسنا يمكنه من إنجاز شيء على الأرض. وبعد اربعة شهور عاد باول للمنطقة وبشكل يخالف رغباته. فهو حاول البحث بإلغائها، وذلك خوفاً من الفشل كما قلل من تأثيرها. وكانت هذه الجولة التي جرت في حزيران تحمل الكثير من التخبط. حيث دعم باول فكرة وضع مراقبين دوليين في الضفة الغربية وقطاع غزة ثم تملص من الفكرة بعد ان واجه انتقادات اسرائيلية. كما وافق على فكرة شارون بضرورة وجود فترة تهدئة قبل الشروع بأي محادثات سياسية، واعتبر هذا الأمر مكافأة لإسرائيل من قبل الولاياتالمتحدة، وهو ما جعل المسؤولون الأمريكيون في وقت لاحق العدول عنها. ومنذ تلك الفترة أوضح مستشارو باول انه لا يفكر برحلة ثالثة. وحسب مصدر سياسي امريكي فإن الثقل الأكبر للسياسة الأمريكية يتجه نحو غزو محتمل للعراق وهو ما يوافق الرؤية العسكرية لباول ويريد التأكد من عدم وجود أي معارضة في البيت الأبيض لهذا الموضوع. عملياً فإن الولاياتالمتحدة واجهت، وخلال مرحلتين متعاقبتين، تصعيداً وضغوطاً عنيفة من حلفائها العرب، وهو ما دعاها الى تطوير تدخلها. ففي حزيران ارسل بوش مدير وكالة الاستخبارات المركزية جورج.جي. تينيت الى المنطقة للتفاوض حول خطة لفرض وقف اطلاق النار لكن مهمته فشلت. وفي تشرين الثاني ألقى باول خطاباً سياسياً في «لوسيفيل» لخص فيه الرؤية الأمريكية لسلام نهائي في الشرق الأوسط وتم تعيين زيني لهذه المهمة. لكن حتى مع إطلاق هذه الحملة الجدية لصنع السلام، فإن المسؤولين الأمريكيين كانوا يتصارعون حتى الساعات الأخيرة حول كيفية هذا التدخل. فقبل هذا التاريخ ظهرت مجموعة عناوين للتدخل، بينما بقي عدد من المسؤولين غير متأكدين من القدرة على التعامل مع هذا الأمر. وكان للخارجية خطاب مستقل بينما لم يعط البيت الأبيض الإشارة للبدء بالتدخل. ورغم وعود باول بان زيني سيبقى صلباً من اجل إحياء المفاوضات ووقف إراقة الدماء، لكن الإدارة الأمريكية استدعته مرتين بسبب ازدياد استخدام العنف. عاد زيني الى القدس خلال شهر آذار، وسط حصار مقر عرفات العام، والدبابات الإسرائيلية في الشوارع بينما العمليات الفدائية تنفجر يومياً، ويقول بوش إن زيني سيبقى في المنطقة إلى أن يوجد فرصة للتفاوض، فرصة للناس ان يتقابلوا.