بعد 45 سنة تقريباً تعود القمة العربية الى بيروت لبحث مصير القضية الفلسطينية ومراجعة عملية السلام في الشرق الاوسط. وكان الرئيس اللبناني كميل شمعون استضاف القمة العربية الثانية 14/11/1956 في محاولة لتخفيف الاحتقان الشعبي الذي عبّر عنه الشارع، وإظهار بعض التعاطف السياسي مع الرئيس جمال عبدالناصر. وحضر في حينه الملك سعود السعودية والملك حسين الاردن والملك فيصل الثاني العراق ومحمد البدر اليمن والرئيس شكري القوتلي سورية ومصطفى بن حليم ليبيا وعبدالفتاح المغربي السودان وسفير مصر لدى لبنان عبدالحميد غالب. وانتهت تلك القمة بإثارة خلافات علنية بسبب اعتراض الدول المحافظة التي رفضت مقاطعة بريطانيا وفرنسا، واكتفت بإعلان بيان الشجب والاستنكار. واتخذ عبدالناصر من تلك الخلافات حجّة للحديث عن ضرورة توفير قاعدة عربية اساسية تحافظ على وحدة الصف ووحدة الهدف. وبقي هذا الشعار مطروحاً حتى في اكثر القمم توتراً مثل قمة الخرطوم التي أطلقت اللاءات الاربع 1967 وقمة الدار البيضاء التي منحت منظمة التحرير الحق الشرعي والحصري في تمثيل الشعب الفلسطيني، وهناك من يرى في قمة بغداد 1979 مرحلة جديدة لتشرذم النظام العربي، خصوصاً بعد فشل الجامعة في رأب التصدّع الذي أحدثه اتفاقا "كامب ديفيد". ثم تعرض هذا النظام لصدمة اخرى عام 1990 لم تنجح قمة الاسكندرية في منع انهياراتها السياسية والأمنية إثر غزو الكويت. القمة العربية في بيروت تبدأ اجتماعاتها الاربعاء المقبل وسط أجواء سياسية قابلة لتوفير وحدة الصف ووحدة الهدف. ومن المؤكد ان الإجماع الذي حظيت به مبادرة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز سيكون القاعدة الأساسية التي تؤمن للحكّام العرب فرصة تعويم اتفاق مدريد الذي أضاعه عرفات في أوسلو، كما أضاع معه حماية الدول العربية ودعمها، بحجة فصل القرار الفلسطيني المستقل عن الجسم السياسي العربي المُثخن بجروح التفرقة والنزاعات القطرية. وكي يتخطى نهج الاستفراد الذي اعتمدته اسرائيل في سياسية الخطوة - خطوة وعزل المسارات، حوّل الأمير عبدالله بن عبدالعزيز مبادرته إلى مبادرة عربية تعكس طروحات 22 دولة، وتجنب عرفات أخطار السقوط والاستسلام. من هنا اكتسبت هذه الرؤية بُعداً اقليمياً شاملاً كأن أمن اسرائيل أصبح مسؤولية جماعية شرط تنفيذ مبدأ الأرض مقابل السلام، ما يعفي عرفات من مهمة التقيّد بنصوص اتفاقات اوسلو، ومن تعهّده ضمان أمن الدولة العبرية وتجريد قوى المعارضة الفلسطينية من السلاح. أهم ما أحدثته المبادرة من انعكاسات داخل المجتمع الاسرائيلي هو منح الضباط الخمسين الرافضين للخدمة العسكرية، فرصة التظاهر ضد سياسة شارون والاحتجاج على حرب الإبادة التي يمارسها في الضفة الغربيةوغزة. واعتُبر هذه التمرد بمثابة مؤشر إلى عمق التصدّع في المؤسسات الاسرائيلية، تماماً مثلما أحدثت حركة احتجاج "الأمهات الأربع" الضغط المتواصل الذي أجبر شارون على الانسحاب من بيروت وجبل لبنان. واتخذ المعترضون على نهج الحكومة الاسرائيلية من المبادرة ذريعة لإعلان مواجهة فكرية وسياسية ضد المواقف الداعية الى القضاء على الشعب الفلسطيني. وكان من نتيجة عرض الحل العربي ان ازدياد نشاط حركات السلام لدى الإسرائيليين الذين يطالبون بالعيش في أمان داخل دولة اسرائيل، وليس بالعيش في خوف دائم مكان دولة فلسطين. وفي ضوء هذا التوجه أُعلن عن تأسيس "ائتلاف السلام" برئاسة وزير الاعلام الفلسطيني ياسر عبدربه ووزير العدل الاسرائيلي يوسي بيلين، أحد أبرز السياسيين الذين وقعوا "بيان العشرين". وفي هذا السياق، يلعب تيار "ائتلاف السلام" دوراً مهماً في موضوع إنهاء الاحتلال ووقف اسلوب العنف، وضرورة استئناف المفاوضات من منطلق الثوابت التي نص عليها اتفاق مدريد. منذ الثالث من كانون الأول ديسمبر الماضي والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مُحاصر في رام الله بقرار من أرييل شارون الذي لا يسمح له بمغادرة المدينة، سواء الى قطاع غزة أم الى خارج فلسطين. وكشف رئيس الحكومة الاسرائيلية هذا التدبير يوم منع عرفات من حضور احتفالات عيد الميلاد في مدينة بيت لحم. وأقام الجيش الاسرائيلي الحواجز على طرقات رام الله خوفاً من تسلل عرفات باتجاه الأردن أو مصر. وتحولت صور الجنود وهم يبحثون عنه في صناديق الشاحنات الى موضوع تندّر يقول أبو عمار انه ذكّره بحواجز بيروت عام 1982 عندما كان شارون يطارده. والغاية كما فسّرها رئيس هيئة الأركان الجنرال شاؤول موفاز، هي إلغاء دور عرفات كرئيس للشعب الفلسطيني، وطرد قيادته المثيرة للمشاكل، وإعداد الساحة لقادة محليين مثل الرجوب ودحلان، على حساب قادة تونس. ونجح شارون خلال زياراته واشنطن، في إقناع الرئيس جورج بوش بهذا المخطط، مُشترطاً تأييد الإدارة في عملية الضغط. وبسبب ابتعاد الموقف الاميركي عن عرفات، خسر رئيس السلطة الفلسطينية قوة التوازن الدولي التي أعانته على تخطّي الأزمات مع اسرائيل. لكن بسالة الانتحاريين من سكان المخيمات وجماعات "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"الجبهة الشعبية" أجهضت خطة تهميش عرفات، وأرغمت الرئيس بوش على إرسال الجنرال زيني بهدف انقاذ شارون من الورطة التي وضع نفسه فيها. وتزامنت هذه الخطوة مع ظهور توازنات أوروبية وعربية للتعويض عن الموقف الاميركي المُغيّب. وأصدر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بياناً بتأييد السلطة الفلسطينية، وبضرورة مشاركة رئيسها في عملية السلام. وأعلن الملك فهد بن عبدالعزيز والملك عبدالله الثاني والملك محمد السادس والرئيس حسني مبارك، وحتى الشيخ أحمد ياسين تضامنهم مع عرفات، مُطالبين بفك الحصار عنه بغية الاشتراك في القمة العربية في بيروت. ومن هذا الباب - أي باب حماية رئاسة عرفات - دخلت مبادرة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الى البيت الأبيض، لتؤكد أهمية تفعيل دور رئيس السلطة الفلسطينية، وجدوى حضوره مؤتمر القمة. وكان واضحاً من تعليقات بوش المُخفّفة، أنه تراجع عن تصلبه تجاه عرفات وأقر بأن "الرئيس الفلسطيني لا يستطيع بالضرورة منع كل تفجير انتحاري". لكنه طالبه بأن يكون "صارماً وحازماً ومنسقاً في جهوده لكبح جماح أولئك الذين يريدون إفساد أي تقدم نحو السلام". وربما يفهم المراقب العربي جدية تحوّل الموقف الأميركي من خلال مؤشرين مهمين كالقرار 1397 الصادر عن مجلس الأمن، والذي ينص للمرة الأولى على قيام دولة فلسطينية. أما المؤشر الثاني فتجلى في تحركات ديك تشيني الذي باشر جولته باستمزاج الآراء حول إمكان التوصل إلى حل مع إسرائيل لا يشارك فيه عرفات، ثم انتهى بإعلان تدخله للإفراج عنه. يقول المراقبون ان مبادرة ولي العهد السعودي تؤسس لإحياء اتفاق مدريد، مع الأخذ في الاعتبار رفض شارون كل اتفاقات السلام مع العرب، بدءاً بكامب ديفيد، مروراً بأوسلو، وانتهاء بوادي عربة. وبما أن واشنطن أيّدت في الماضي إسقاط حكومة اسحق شامير ليكودي، ومنحت دعمها لحكومة رابين - بيريز، فإن تلك الانعطافة التاريخية انتجت الاعتراف السياسي المتبادل بين الشعبين. ومعنى هذا أن شارون أو نتانياهو أو أي مرشح ليكودي آخر لا يمكنه التسليم بوجود دولتين فوق "أرض إسرائيل الكبرى"، ما يقتضي بدء الإعداد لانتخابات جديدة في إسرائيل تبدل نهج شارون وما حمل للفلسطينيين من مآسٍ وضحايا. ويُستدل من المحادثات التي أجراها تشيني مع رئيس وزراء إسرائيل أنه يسعى إلى خلق تيار قوي مؤيد لإخراج حال الصدام والعنف إلى المفاوضات والتسوية. أي تحويل الدعم الأميركي لخطوات شارون العسكرية إلى رافعة سياسية تنقله من مخاصمة عرفات إلى مصالحته. ولكن في حال تبني الدول العربية والإسلامية والأوروبية للمبادرة السعودية، فإن المشهد السياسي برمّته سيتغير لمصلحة اتفاق مدريد الذي ينهي تلقائياً اتفاق أوسلو، خصوصاً أن تجربة أوسلو أثبتت فشلها منذ وقّعها أبو عمار في أيلول سبتمبر 1993، وعجزت بعد تسع سنوات عن تحقيق تقدم واحد في أي مجال. تبقى الأسئلة المطروحة بإلحاح: هل يسمح شارون لعرفات بحضور القمة العربية في بيروت؟ وهل يسمح له بالعودة إلى الضفة وغزة إذا خرج بخطابه عن خط الاعتدال والتهدئة؟ وهل يكون من الأفضل لدوره القيادي أن يبقى في السجن بين أهله، على أن يغامر بالخروج إلى بيروت، ويضيّع كل ما أسّسه في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ الأجوبة عن هذه الأسئلة المحيّرة مرتبطة بمدى جدية جورج بوش لإنهاء حال النزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بل بمدى اقتناعه بأن حفاظه على سلامة عرفات قد يعينه عربياً على تهديد سلامة صدام حسين. والمؤكد أن شارون سيطلب تعهداً من الإدارة الأميركية ببقائه في الحكم حتى آخر ولايته، وإلا فإن ذهاب عرفات إلى بيروت سيكون من دون عودة. وهكذا يستوي في الورطة السجين والسجّان! * كاتب وصحافي لبناني.