أتذكر المرة الأولى التي قرأت فيها «حماري قال لي» لتوفيق الحكيم، وأتذكر إن العنوان شدني، فبدأت أقلّب صفحات الكتاب، حتى أتممت قراءة الكتاب كاملاً بعد أنّ وقعت في حبه. وللكتاب منزلة خاصة عندي سببها التجربة الممزوجة بالدهشة وجو الغرابة والمتعة التي شعرت بها. ثم بعد ذلك بسنوات بدأت أتوسع في الاهتمام بالثقافة والفنون والأدب، واطلعت على الفكرة التي تقول إنَ كثيراً من الأدب المصري مسروق من الأدب العالمي، ومن ضمن هذه السرقات كُتب «حمير» توفيق الحكيم المأخوذة من سرديات غربية تمتد تاريخها من بعض الأساطير اليونانية وصولاً إلى الرواية الأسبانية «أنا وحماري» للمؤلف خوان رامون خمنيث، ولأكون صادقاً لم يفسد ذلك قيمة الأثر الذي تركه كتاب «حماري قال لي» للحكيم في نفسي، ولم تزل؛ إلى اليوم تجربة قراءة كتاب «حماري قال لي» في ذلك الوقت والزمان ذكرى تبعث في نفسي السعادة؛ فلا أتذكر كل موضوعات الكتاب، ولكن أتذكر الأحاسيس النفسية العميقة التي شعرت بها بسبب الكتاب. يمتلك الأدب - وكل الفنون - قدرات سحرية على ترك الأثر النفسي العميق في ذواتنا رغم تقدم العمر وتعدد التجارب. وبشكل مشابه للأثر الذي تركه في نفسي كتاب «حماري قال لي» لتوفيق الحكيم، مررت بنفس التجربة عندما شاهدت فيلم بالتازار Au Hasard Balthazar للمخرج الفرنسي الاستثنائي روبرت بريسون، ولكن التأثير الذي نشأ عن تجربة فيلم بريسون أعظم، وذلك لأن الأدب تجربة ذهنية فقط، بينما السينما الجيّدة تتجاوز حدود التجربة الذهنية، وتخاطب حواسنا البصرية والسمعية. فعندما نتذكر الأثر الذي تتكره الأفلام العظيمة في صدورنا لا نتذكر فقط تأثيرها على أنفسنا، بل نتذكر أصوات الشخصيات، والموسيقى التصويرية (وهنا استخدم بريسون مقطوعة Schubert piano sonata No 20 in A Major D 959 للمؤلف الموسيقي فرانز شوبرت)، و بعض الذكريات البصرية. منذ النشأة الأولى وقبل أنّ تتبلور فكرة السينما كصناعة أفلام، كانت السينما مجرد شاشة تعرض لقطات فيديو قصيرة؛ بلا حوارات مسموعة، وبلا أصوت، ولا ألوان، بمعنى أن السينما بطبيعتها وسيلة تعبير بصرية، ثم دخلت تقنيات الصوت، وتدريجياً؛ أصبحت كل الأفلام ناطقة، ولكن هذا لا ينفي أهمية اللغة البصرية للتعبير عن المعاني المراد تقديمها للمتفرج. في منتصف عشرينيات القرن الماضي، كانت الأفلام غير ناطقة، وبلا حوارات محكية، وكان التنافس على أشده في هوليوود بين قطبين السينما الصامتة؛ تشارلي تشابلن وباستر كيتون، وكان الصراع الفني بينهما على مستويين، أولهما؛ المستوى الشعبي؛ حيث كان يطمح كل واحد من الاثنين أن يحقق نجاحاً جماهيرياً أكبر من الآخر. وثانيهما؛ المستوى الإبداع الفني، حيث كان التنافس بينهما في محاولة إظهار قصة الفيلم دون الاستعانة بالكلام المكتوب على الشاشة والذي يوضح ويشرح الأحداث، فكان تركيزهم محصور على التعبير بلغة بصرية عن الأحداث دون الاستعانة بلغة مكتوبة. فيحاولان عرض لقطات الفيلم لأطول فترة زمنية ممكنة دون الحاجة لشرح الأحداث بكلام مكتوب على الشاشة. وفي تلك المرحلة نشأت نظرية المونتاج في روسية، وكانت في بدايتها عن طريق تجربة قام بها الروسي ليف كوليشوف، و تعرف باسم «تأثير كوليشوف»، وهي عبارة عن لقطة لوجه بدون تعابير، ثم بعدها لقطة مختلفة لطبق حساءٍ ساخن، ثم في اللقطة التي بعدها نعود للقطة الأولى لنفس الوجه الذي لا يعبر بالضرورة عن أي شيء، فبالتالي عبر إظهار الوجه في لقطتين، وبينهما لقطة يتيمة مختلفة وذات معنى مختلف، ينتج عن ارتباط اللقطات نشوء معاني مرتبطة بدلالات تتابع اللقطات خلف بعضها، أي أنَّ وجه الرجل الذي ينظر إلى طبق الحساء يرمز لمعاني الجوع و الشبع والغثيان، وهلم جراً. وفي فيلم حمار بالتازار يقدم روبرت بريسون نموذجاً على «تأثير كوليشوف» مُطوَّلاً. فيعرض أحداثاً من الفيلم، ثم يعرض لقطة مقربة على وجه الحمار، وهكذا، لذا فالفيلم ينتمي لجوهر السينما، ويرتبط بطبيعة تكوينها الفنية. ويصبح الحمار مركزاً لهذه التجربة السينمائية. مصدر إلهام الفيلم أجزاء مقطوعة من رواية «الأبله» لديوستوفسكي، ويحكي الفيلم قصة فتاة اسمها ماري تعيش في قرية ريفية فرنسية وهي بعمر مشابه للحمار بالتازار، وأصدقاء منذ الطفولة، فيصبح الحمار شاهداً على مراحل تطور حياتها من الطفولة إلى الشباب. فنشاهد الحمار يمر بتجارب حياتية، وكل من حوله في القرية يمرون بتجارب حياتية مختلفة، لذا فالفيلم مليء بالقصص، كقصة الحب بين ماري وجاك، وقصص مرحلة المراهقة في القرية، وقصص مشاكل القرية، وكل ذلك يحدث دون أن يعبر الحمار عن رأيه فيما يحدث، أو ينطق بكلمة واحدة. وتدور أحداث الفيلم في زمن مهم بالنسبة للقرية وبالنسبة للحمار، وهو زمن تحول وسائل النقل من الحمير والأحصنة إلى السيارات والباصات والقطارات، وهي مرحلة التخلي الكبرى عن الحيوانات، والاعتماد على الآلة. في هذا الفيلم؛ لم يكن معنى الحمار رمزياً، كما في فيلم الصقور والغربان « Uccellacci e uccellini» للمخرج الإيطالي بيير باولو بازوليني، حيث توجد لقطة لطائر الغراب الذي يمتلك القدرة على الكلام، فلا يسكت، ويتحدث مع رجل وإبنه عن الأفكار اليسارية المتأثرة بفلسفة كارل ماركس، وهنا في هذه الحالة؛ يجسد الغراب معنى ذا دلالات رمزية. أما بريسون بطريقته الخاصة جعل شخصية الحمار «بالتازار» ترمز فعلاً لحيوان الحمار في هذه القرية المحددة وفي ذاك الزمن المحدد، دون أي معاني رمزية، وبشكل فني أصبح الحمار الذي لا يتكلم ولا يعبر عن رأيه؛ مساحة حرة من العواطف والأحاسيس التي يقوم بتعبئتها المتفرج. فلم يعطي بريسون للحمار قوة بشرية أو فوق طبيعية أو حتى قدرة على الثأر من الذين ضربوه، ولكنه اكتفى بإظهار الحمار كما هي كشخصية حيوانية لديها ملكة الصبر النبيلة، وتتحمل كل ما يحدث حولها ولها.. ** **