لم يطمئن الإنسان الحديث بخاصة، إلى واقعه يوماً، ولحسن الحظ ألفى في الأدب والفن خير وسيلة للتعبير عن اللااطمئنان هذا، إذ راح يتصور الكوارث ونهايات للعالم في أزمنة الرخاء، وفي أزمنة الشدة أخذ يهندس عوالم طوباوية مثالية. كل هذا من أجل الوصول إلى تخوم التجربة الإنسانية والإدراك البشري، من أجل دفعهما إلى مناطق أوسع. بيد أن إنسان القرن ال21 استهل قرنه بكارثة خاصة، ألا وهي هجمات 11 سبتمبر، وما تلاها مما يسمى الحرب على الإرهاب. ولأن الأدب معني في المقام الأول بالتجربة الإنسانية كما أسلفت، كان لتلك الكارثة تأثير عميق شمل تأثيره كل مشارب الأدب والثقافة، كالوعي والخوف والذاكرة وخلافها. باختصار، أحدثت شرخاً لا يمكن إصلاحه، على الأقل في المدى القريب، وكان لزاماً على الأدب التعامل معه. قالت توني موريسون على سبيل المثال عندما طُلب منها أن تعلق على أحداث 11 سبتمبر: «ليس لدي ما أقول». أما جاك دريدا فعلق: «نحن لا نعرف عمّ نتحدث». وعلى رغم أن هذين التعليقين كانا استجابتين مباشرتين، إلا أنهما حملا وعياً بصعوبة المسؤولية، أعني تعامل الأدب مع الشرخ آنف الذكر. لقد لجأ دريدا وموريسون إلى الصمت كي يعبرا عن ألمهما وعجزهما عن الوصول إلى فهم كامل لحدث أبشع بكثير من أن يدرك على حقيقته. لم تترك الهجمات على برجي التجارة العالمية فراغاً في السماء فحسب، بل تركت فراغاً هائلاً في اللغة بوصفها مطيّة تعبير، ولكن قدر اللغة أن تعبر عن الصدمة التي ورثتها الكارثة على أية حال. كان على الأدباء أن يكتبوا عن تجربة «لا يستطيع سوى التلفزيون أن يجلب مناظرها»، بحسب تعبير الروائي البريطاني يان ماكيوان. ولهذا شكلت هذه النقطة تحديداً، عرض الحدث على شاشة التلفزيون ومشاهدة الملايين في أرجاء المعمورة له، ملمحاً من ملامح صعوبة المهمة والتحدي الذي واجه الكتاب وهم يحاولون تمثيل حدث كهذا. دراسة المجازات والأساليب اتخذ الأدب في مقاربة هجمات 11 سبتمبر والحرب على الإرهاب مناح عدة، سعياً إلى فهم الحدث وتفسيره، كما دراسات نقدية ترمي إلى دراسة المجازات والأساليب والأجناس التي ظهرت في سبيل استحثاث معنى الحدث. من الأمثلة على التفاعل النقدي كتاب: «11/9 وأدب الإرهاب»، الذي يتقصى فيه مارتن راندال إلى أي مدى نجحت أو أخفقت الأعمال الأدبية في استجواب التوترات المتعلقة بالكارثة، من خلال تحليل تمثيل الهجمات في عدد واسع من الأعمال الأدبية، كما يكشف أيضاً التحديات المعقدة التي طرحتها صور 11 سبتمبر، برمزيتها البصرية المذهلة أمام الأدباء. مثال آخر ذلك الذي قدمه ريتشارد غراي في كتاب: «بعد السقوط، الأدب الأمريكي منذ 11/9»، مختبراً أثر 11 سبتمبر والحرب على الإرهاب على الأدب والثقافة الأميركيتين. قدم غراي تحليلاً مفصلاً للكيفية التي تعامل بها الكتاب والفنانون الأميركيون مع فرصة مقاربة التاريخ بطريقة مغايرة، والكيفية التي واجهوا بها التحديات التي فرضتها الأزمة. فضلاً عن ذلك خرج سيل هائل من المقالات التي حاولت دراسة تمثيلات الكارثة في الأدب والسينما والمسرح والرسوم الكاريكاتورية وغيرها، وكيف أن المبدعين يجاهدون كيما يستخلصوا من الحدث معناه. يمكن القول إن محور النشاط النقدي ظلّ دائراً حول الإبانة عن الخطاب الذي يشكل ذاكرة الحدث في الجسد الأدبي والثقافي، وتحديد معالم تأثير الحدث على ذلك الجسد. أعود فأقول إن أكبر تحد واجهه الأدب في صدد هجمات 11 سبتمبر هو ضخامة المشهد البصري، الذي فاق بكثير التجربة التي يمكن أن يقدمها الأدب، فكان أن أضحى الكتّاب في حيرة حيال الطريقة التي يمكن بها تمثيل الحدث. الميزة الحاسمة للصدمة استعصاؤها على القول. إنها - بتعبير راندال - «ما يشغل الحيّز ما بين الصمت والحديث»، في الوقت الذي كان على الأدباء والفنانين أن يمدوا جسوراً لردم الهوة، والتعبير عما يصعب التعبير عنه وعَوْا على حقيقة أن الحدث قد ثلم أدواتهم. جلي أن أحداث 11 سبتمبر وضعت الكتابة الأدبية بوصفها حِرفة على المحك، إذ تسبب غبار البرجين الساقطين في تشويش الصورة في ذهن الإنسان الأميركي على وجه الخصوص، وغدت مهمة الأدب أن يزيل ذلك التشويش. بالطبع ستستغرق العملية وقتاً، حيث على الأدب فهم ما يجري قبل أن يكون بوسعه تأطيره ضمن صورة أكبر وأشد وضوحاً. ولكن قبل أن يستقر غبار البرجين على الأرض، أدرك الكتّاب أن أدواتهم غدت كليلة وعقيمة بفعل هول الصدمة. إذ تعرفوا حالاً على المشكلات العميقة للتمثيل الذي أمدّهم بها الحدث الفظيع، ومنذ ذلك الحين وهم يحاولون جهدهم استعادة الثقة في أدواتهم. على كل حال، اضطروا إلى أن يطرحوا أسئلة ويقترحون إجابات ويثيرون نقاشات في سبيل فهم دوافع الحادثة أولاً والصدمة التي سببتها ثانياً. وهكذا كتبت كتب كثيرة في سائر الأجناس الأدبية، محاولة مقاربة الحدث بفعالية، وسعياً لفهم نجاعة الأدب في التغلب على حيرة تمثيل الهجمات أدبياً، عقد النقاد مقارنات بين الاستجابات المبكرة والمتأخرة للحدث، وركزوا على الطريقة التي يعمل بها الأدب في الأثناء نفسها التي يحاول فيها استيعاب معنى الحدث ودلالاته. هوية مجروحة منتهكة أتت الاستجابات المبكرة على شكل مقالات ومذكرات وردود فعل إعلامية، واتسمت عموما بالتشابه، وبإحساس عميق بهوية مجروحة منتهكة، وحرمها قربها الزمني والمكاني من التمتع بزاوية أفضل للرؤية، أما الاستجابات المتأخرة فخطَت خطوات موفقة نحو تأويل الحدث وتمثيله. فمثلاً من بين أكثر الأعمال المكتوبة في هذا الموضوع لقيت رواية الروائي الأميركي دون ديليلو: «الرجل الساقط» التي نشرت في 2007 صدى واسعاً لدى النقاد والقراء. كان ديليلو أحد الذين علقوا على الحدث في أكثر من مناسبة وعمل أدبي، فكانت الفرصة سانحة لمدى تتبع الاختلاف، إن في النبرة وإن في الشكل، بين روايته هذه وبين مقالاته المبكرة، التي كتب في إحداها: «يحتاج الكاتب إلى أن يعي ماذا فعل بنا هذا اليوم حتى يستطيع أن يكتب سرداً مضاداً». فهل تمكن ديليلو فعلاً في روايته من الوصول إلى السرد المضاد الذي روج له؟ تفاوت النقاد في تقييم تجربته، ففي حين رأى بعضهم أن تجريبه على المستوى البصري في بنية الرواية نجحت في تمثيل ما يصعب تمثيله، (حوت الرواية على لقطات متتابعة عبر صفحاتها لصورة الرجل الساقط من أحد البرجين ولكن بشكل عكسي، وكأنما الرجل يعوم في الفضاء بدلاً من السقوط)، رأى نقاد آخرون أن ديليلو وقع فيما خشي منه، وهو أن يرتكب الأدب خطيئة تدجين الصدمة وجعل اللامألوف مألوفاً. هكذا إذن، بالكاد كشط ديليلو - شأنه شأن غيره - سطح الصدمة، ولم ينجح فعلياً في تمثيلها. توقعت الأعمال النقدية التي تناولت تمثيلات 11 سبتمبر أن يلجأ الكتّاب إلى أساليب جديدة وأجناس هجينة باستطاعتها نقل التجربة الهائلة، لأن هناك اتفاقاً على أن الأجناس والأنماط السائدة غير قادرة على تمثيل الكارثة. لقد شكلت ضخامة الحدث وفجائيته مثلاً عائقاً أمام الأعراف السردية التقليدية (الحبكة، وتسلسل الأحداث، إلخ) ما دفعها إلى التوفيق بين معطياتها الفنية وبين واقع الحدث، كما فعل ديليلو. في المقابل، ذهب راندال إلى أن الواقعية السردية ربما لم تكن الجنس الأنسب لهذه المهمة، وأن الأجناس الأكثر هجيناً، مثل الرواية المصورة والمقالة المذكرات والفيلم القصيدة والفن المفاهيمي، تناسب أكثر في تمثيل الهجمات، وذلك لقدرتها على اللامباشرة في تصوير الصدمة، وتحويلها إلى ذاكرة سردية. وبالفعل، فعلى عكس الحدث الذي صار فجأة وسريعاً، أخذت الكتابة طويلاً حتى تبدأ في مقاربة الحدث بفعالية أكبر. على رأس قائمة الأعمال الأدبية التي يعتبرها النقاد ناجحة وإن نسبياً في هذا الصدد، رواية: «الطريق» لكورماك ماكارثي (2009)، ورواية: «الأصولي المتردد» لمحسن حامد (2007)، ورواية: «نذرلاند» لجوزيف أونيل (2008)، وعدد من الأعمال متعددة الوسائط. أخيراً، بقدر ما تكون الصدمة موضوعاً للأدب بقدر ما تكون محرضاً له وشاحذاً لأدوات الكتّاب. ليس أدل على ذلك من هجمات 11 سبتمبر، التي انبرى للكتابة عنها كتّاب من كل أنحاء العالم، بعد أن وجدوا فيها ما استفز قدراتهم الإبداعية، وحث على سبر أغوار التجربة الإنسانية، التي تتعالى على الحدود الجغرافية والزمنية. وما عرض له المقال أعلاه ليس إلا ملمحاً واحداً من ملامح الأدب في القرن الشاب الذي أثبتت فيه الصورة بجدارة تفوقها على الكلمة. * كاتب سعودي.