تكريماً لذكرى المخرج السينمائي الفرنسي روبير بريسون 1907-1999 قدم المركز الثقافي الفرنسي في دمشق ثلاثة أفلام مختارة من أعماله التي لا تتجاوز الأربعة عشر، أنجزها في نصف قرن، من منتصف الثلاثينات الى أوائل الثمانينات. ومع خصوصية أعمال بريسون حظيت أفلامه باهتمام السينمائيين وجمهور الأندية السينمائية السورية منذ السبعينات، تماماً كما حظي كتابه الوحيد "ملاحظات في السينماتوغرافيا" الذي صدر في سلسلة الفن السابع في دمشق، قبل ثلاث سنوات، بالاهتمام نفسه. وقد نقله الى العربية الشاعر والسينمائي العُماني عبدالله حبيب. الأفلام الثلاثة التي عرضت في دمشق وانتقلت الى حلب وطرطوس هي: - "النقود": آخر أفلام بريسون وهو مقتبس عن رواية "القسيمة المسروقة" لتولستوي، وفيه يرصد المخرج الصراع الداخلي لرجل تقوده علاقته مع النقود الى القسوة وتدمير الذات وتشوّه علاقته مع الآخرين من حوله. - "موشيت": ويحكي الفيلم عن فتاة ريفية وحيدة، تحتاج الى كل شيء وإلى الحب خصوصاً، وهو مقتبس عن عمل لجورج برنانوس، ولم تكن نادين نورتييه التي أدت دور الفتاة ممثلة محترفة، مثل كل الشخصيات الأخرى في أعمال بريسون، لكن براعتها في أداء دورها رفعتها الى مستوى الممثلين المعروفين وتزوجت من المخرج الشهير جان لوك غودار الذي أعجب بها إضافة الى إعجابه الدائم بأعمال بريسون وموهبته. - "بالتازار بالمصادفة": يسرد الفيلم حكايتين متوازيتين، حكاية الحمار "بالتازار" الذي تنتقل ملكيته من شخص إلى آخر، ومع أنه حمار جميل ولطيف، يعاني دائماً من الناس الذي يمرّ بهم. وفي المقابل تواجهنا حكاية شابة تعاني من أولئك الشبان ذوي السترات الجلد السود الذين يمثلون الشر والغباء معاً. حركة داخلية يعتمد تفرد أسلوب بريسون على اعتبار أن السينما هي "الحركة الداخلية"، لذا يبتعد عن السينما التي تشبه المسرح، أو تقترب منه من خلال تمثيل المحترفين، وهكذا كان يعتمد على اختيار "ممثليه" من غير المحترفين، ويجري لهم تدريبات مستمرة ومرهقة، ويعيد تصوير اللقطات والمشاهد عشرات المرات، قبل أن يختار منها ما يناسبه، حتى أنه صوّر ستين ألف متر من الأفلام الخام في فيلم "يوميات قس ريفي"، لم يبق منها سوى ألفين وخمسمئة متر في نسخة العرض، أي أنه صور أربعة وعشرين ضعفاً للمادة التي استخدمها، وهذا ما لم يحدث مع أي مخرج معروف آخر، وهو يدخل في صلب أسلوب بريسون الذي يعتمد على الحذف، لا الإضافة. كان بريسون يكتب سيناريوهات أفلامه بمفرده أو بالاشتراك مع أبرز فناني جيله، مثل جان كوكتو ورينيه كلير. وهو في كل أعماله يستند إلى ثقافة واسعة تشمل دراسة الفلسفة والأدبيات الإغريقية وممارسة الرسم. ومر بتجربة قاسية حين وقع أسيراً في أيدي الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية، فقضى عاماً في السجن. وهي التجربة التي أوحت له بإبداع أهم أفلامه "رجل هرب" في منتصف الخمسينات. يوصف بريسون بأنه ناسك السينما الفرنسية لأكثر من سبب. فهو مقل في إنتاج الأفلام وفي الكتابة، إذ كان يلوذ بالصمت بعيداً من الأضواء، وقد تركت تجربته تأثيراً واضحاً في تجارب سينمائية مختلفة، ونظر إليه عدد من كبار السينمائيين بإعجاب خاص. فقال عنه جان كوكتو: إنه يعبر عن نفسه سينمائياً، كما يعبر الشاعر عن نفسه بالقلم. وأفرد الناقد السينمائي الفرنسي الراحل أندريه بازان دراسة مطولة عن بريسون، في كتابه "ما هي السينما؟" جاء فيها: إن بريسون أنصف في صورة نهائية النظرية المعروفة في النقد التي تقول بعدم تجاوز الصورة للصوت، أو العكس. بينما كتب المخرج السينمائي الفرنسي الراحل فرانسوا تروفو يقول عن بريسون: "إن روبير بريسون كيميائي في شكل معكوس، فهو ينطلق من الحركة الى السكون، ويستبعد منخله الذهب ليلتقط الرمل. وكلنا نعلم أن بريسون يوجه الممثلين بإجبارهم على ألا يمثلوا في شكل درامي، وألا يبالغوا في الأداء، وأن يتجاهلوا مهنتهم، وأنه يتوصل إلى ذلك بقتل كل إرادة لديهم وإرهاقهم بعدد لا يحصى من التدريبات وتكوين المشاهد، بطريقة تشبه التنويم المغناطيسي". أفكار من بريسون - كن أول من يرى ما ترى كما تراه. - مارس مبدأ العثور من دون بحث. - اقطع ما من شأنه أن يزيغ الانتباه إلى وجهة أخرى. - حين يكفي كمان واحد لا تستخدم اثنين. - استفز اللامتوقع، توقعْه. - لا يبدع المرء بالإضافة، بل بالحذف، أن تُطوّر فتلك مسألة أخرى أن لا تُبسّط. - احترم الطبيعة البشرية من دون تمني أن تكون ملموسة أكثر مما هي. -الجدة ليست الأصالة ولا الحداثة. - ترجم الريح اللامرئية بالماء الذي تنحته في عبورها.