من النادر أن تجد فيلماً سينمائياً جيداً ينتصر للدين، ويعطي لمظاهر التديّن والعبادات قيماً إيجابيةً. ولهذا تفسير تاريخي، فيتزامن ظهور السينما مع مرحلة انحِطاط الدين في أوروبا، وهي مرحلة التغيير البشري الأكبر في التاريخ المعاصر. فمع منتصف القرن التاسع عشر بدأت البشرية تجني ثمار الثورة الصناعية التي انبثق عنها الثورة التكنولوجية، والإيمان المُطلق بقدرات الآلة، وبالمقابل موت الروح، وسقوط كل المفاهيم الدينية، حتى تحولت الكرة الأرضية إلى عالم مادي محض. عندما بدأ القرن العشرين، كانت السينما اختراعاً جديداً في أوروبا على خلاف باقي الفنون الأخرى، والسينما بطبيعتها مرتبطة بعصرها و زمانها، فهي مزيج بين التكنولوجية كالشاشات والكاميرات، والفن عبر القدرة البشرية على التعبير المرئي. ومن هنا يتضح لنا أنَّ أهمية السينما تتمثل في كونها الأصل لفكرة الشاشة التي تسيطر اليوم على الوجود البشري، وتُميز الإنسان عن الحيوان، لأنه المخلوق الوحيد الذي يستطيع أن يمسك بشاشة في يده يُعبر من خلالها عن وجوده في هذه الحياة. دخلَ القرن العشرين بحرب عالمية غيرت شكل العالم كله، بما فيه الدين ، والقيم الدينية، وبزغَت شمس العالم الجديد الذي ينطبق عليه فعلياً تنبؤ فريدريك نيتشة في كتاب «العلم المرِح»، حين قالَ: «لقد مات الإله. ونحن الذين قتلناه. كيف لنا أن نعزي أنفسنا ونحن قتلة؟» ورغم أن العبارة صادمة، وبنيَت عليها تفسيرات خاطئة، خارج سياقها الصحيح، إلاَّ أنها تصف جوهر القرن العشرين بدقة متناهية. لأن لم يقصد نيتشة الإله في ذاته، بل كان يقصد موت الإيمان بالدين داخل أوروبا المسيحية ، بمعنى موت دَوْر الدين كسلطة اجتماعية وأخلاقية وسياسية. وبالتالي نجد أن التكنولوجية حلت محل الإيمان بالدين. وعلى المستوى الفلسفي، انتشرت أفكار كارل ماركس التي قدمت شرحاً عظيماً عن عيوب الثورة الصناعية و الرأسمالية. لأن الرأسمالية تتحكم في الاقتصاد ولكنها تعجز عن حل المشكلات العمومية التي يشترك فيها كافة الطبقات الاجتماعية ومن ضمنها مشكلات طبقة العُمال، لذا قدمَ ماركس نظاما بديلا اشتراكيا، يتشارك فيه كل أطياف المجتمع، وبعدها، تحولت أفكار ماركس إلى ممارسات سياسية بقيادة فلاديمر «لينين» وليو تروتسكي، وبدأت ثورة العمال، ثم تدريجياً، انتهت الإمبراطوريات والعروش العظمى، وكل أشكال الحياة القديمة ، واستسلمت البشرية للانتقال للعالم الجديد. وبدأت تتشكل دولاً جديدة ، بمفاهيم جديدة ، ولكن البشرية لم تتجاوز الحرب العالمية الأولى بشكل كامل، ومع ذلك أيضاً، ظهرت عيوب ممارسات نظريات ماركس، وفشل التطبيق، وتحول أحفاد العمال الفقراء إلى سلطات مطلقة، أحبوا القوة التي وصلوا إليها، وأحبوا الغنى بعد الفقر، وظهرت مفاهيم تاريخية جديدة مثل التوتاليتارية والفاشية والشيوعية، و شملَ ذلك ظهور هتلر حالة فريدة، فهو متعصب جداً لقوميته، وحفز في خطاباته (وكان يعنيها بالكامل) على الانتماء العرقي الآري الجرماني، الذي شَملَ عداء اليهود كمنظومة عرقية أوروبية تعمل على التعصب العرقي والمركزية العرقية، فنشب صراع عِرقي ضد اليهود الأشكناز (الذين يصنفوا أنفسهم أذكى عرق في أوروبا)، وكانوا من أكبر ضحايا الحرب العالمية الثانية. فقد كان هتلر متأثر بالتاريخ القديم أو الما قبل الحرب العالمية الأولى، ومهووس بالقيصرية الألمانية، وكان يفكر بنفس الطريقة القديمة، ويتصور أن الزمن لازال يستوعب بناء قيصرية ألمانية جديدة، وأدى ذلك إلى دمار العالم مرة أخرى، وموت كل مخلفات العالم القديم ودفنها كاملاً. وبالنهاية عادة التكنولوجيا كالعنقاء تنهض من الرماد، لتحدد معالم العصر الجديد. بالتالي، ازدهرت السينما في لحظة التغيير الكبرى، أو بشكل أدق، لحظة تحول معايير الحياة من الإيمان بالرب إلى الإيمان بالقيم المادية، بمعنى أننا لو فكرنا في كل معاني الحياة بما فيها الأخلاق، فلا ننظر لها من جانب ديني، بل نجرد كل المعاني من الدين إلى المادة، فلا يوجد جسد وروح، بل يوجد جسد فقط، وحتى على مستوى المعرفة نجد تهميشاً للميتافيزيقيا وكل ما هو غيبي، والاكتفاء بإدراك الحياة من منظور شكلي مادي فقط، مع الاعتماد على قدرات التكنولوجية. إذن، كانت السينما منذُ نشأتها متحرِّرَة من ارتباطها بالدين وذلك نتيجةً لتحرُّر زمانها منه. وحتى الأفلام الدينية عبر التاريخ (وفي أغلبها قصص النبي عيسى بروايات مسيحية) تظهر بشكل سطحي ومباشر، وتخدم أفكاراً تسويقية للدين، ولا تحظى بتقديرات ولا امتيازات، بينما الأفلام التي تُقدم معاني مادية للدين، والتي يمكن تصنيفها بأفلام ضد الدين التي تعرض الشخصيات الدينية داخل سياقات غير محترمة ومبتذلة؛ تلقى قبول كبير وتسويق جماهيري واحتفاء نقدي عبر تكريمها والكتابة عنها والإشادة بها. ولو نظرنا لتاريخ الفنون قبل السينما نجد أن مسألة تديُّن الفنون ليست سلبية دائماً، ولم تكن الفنون ملحدة، فالدين في جوهره لا يعارض الفن. ولكن الاهتمام العام بالدين في بيئة ما ينعكس أثره على الفنون التي تظهر من هذه البيئة. فقد كانت المواضيع الدينية في عصر النهضة أعظم النماذج الفنية في التاريخ، وظهرَ مايكلو أنجلو و ليوناردو ديفنشي، و دانتي أليغييري، ثم ظهرت أشد الموجات الفنية تديناً وهي أسلوب الباروك، وظهرَ باخ، ثم بيتهوفن. لأن الفن صنعة تركز على الكيفية والإتقان والجودة بغض النظر عن المعاني الكبرى. ولنتذكر عندما اكتشف الألماني يوهان غوتنبرغ آلة الطباعة الحديثة، اختار الإنجيل كأول كتاب يطبعه، وذلك اهتمامات عصره، بينما ظهرت السينما في عصر انحطاط الدين وكانت ولازالت مرآةَ زمانها. وكما ورد عن عمر بن الخطاب قوله: «الناس بزمانهم أشَبهُ منهم بآبائهم». لذا ليست السينما ملحدة إلا بسبب إلحاد القرن العشرين. ** **