يكاد يكون الفعل الإنساني واحداً، على رغم تعدد الأيديولوجية، فالذي يقرأ التاريخ الديني، سواء في اليهودية أم المسيحية أم حتى الإسلام، يجد صوراً متكررة في حركة الأنساق المعرفية تتراوح بين الانغلاق والانفتاح، فمفهوم الوسطية، مثلاً، لا يقتصر تناوله على الإسلام، بل هو موجود في المسيحية أيضاً، ومن أكثر المصطلحات انتشاراً «الأرثوذكسية»، وتعني التزمت والانغلاق، الذي يرفض كل نزعة تجديدية تخرج عن المألوف، ويتشكل منها العقلية الدوغمائية الرافضة لأي شكل آخر من الأفكار، واضعتها في حيز الممنوعات الفكرية، كما أنها تتسم بحجر المخالفين في دوائر اللاعقائديين واللاإيمانيين، حتى لو كانت منطلقات هذه العقلية من نتاج فهم بشري. وبوجه عام، فإن هذه المبادئ، التي تحكم العقلية الدوغمائيّة توجد في الحال الدينيّة الإسلامية والمسيحية واليهودية، لأننا كما قلنا آنفاً إن هذه المصطلحات بما ينضوي تحتها من كم معرفي، سواء في مصطلح الوسطية أم مصطلح «الأرثوذكسية»، هي صور من التعامل مع النصوص ومع الآخرين، لأننا لا نستطيع أن نفصل النص المقدس عن الجزء البشري، ومن يقرأ التاريخ المسيحي، أو الإسلامي يجد المشابهة العجيبة، سواء في الحكم بالزندقة، أم تحريق الكتب، فهذا الفقيه العقلاني ابن حزم، الذي حرقوا كتبه، فقال للمحرقين: فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري ومن هذا الباب أيضاً ما وجد في العهد القريب من الدعوة إلى سجن من يقول بتعليم المرأة، وهذا يذكرنا بحرمان المرأة في أوروبا من التعليم، حتى كانت عالمة فيزيائية في ما بعد عصر التنوير في أوروبا في باريس تدعى (SOPHIE GERMAIN) تضطر إلى أن توقع مراسلتها للعلماء في الجامعات الفرنسية باسم رجل، لأن المرأة كانت ممنوعة من دخول الجامعات. وعند كلامنا عن الإلحاد كنقيض للتدين أو التنوير، فلا يمكن لنبته معينة أن تنبت من دون وجود بيئة مناسبة لها تغذيها، وتهيئ لها الفرصة للنمو، أو التجذر، حتى تصل إلى عمق المجتمع الذي تعيش فيه. الخلفية التاريخية هذا الانقلاب الرهيب على الدين، الذي تمثله الكنيسة في أوروبا، لم يأتِ من فراغ، وعلى كل دارس أن يستجلي الحقائق من مكامنها، ويدرس التطور الفكري في مراحله المختلفة، ويلقي الضوء على الأسباب الحقيقية، التي وصلت بنا إلى هذه المحصلة. ربما أفضل مقدمة لما نحن فيه ما ذكره أسامة بن منقذ (1095-1188) في كتابه الاعتبار نقلاً عن صاحب طبرية: «كان عندنا في بلادنا فارس كبير القدر، فمرض وأشرف على الموت، فجئنا إلى قس كبير من قساوسنا فقلنا تجيء معنا حتى تبصر الفارس فلاناً، قال نعم، ومشى معنا ونحن نتحقق أنه إذا حط يده عليه عوفي، فلما رآه قال أعطوني شمعاً فأحضرنا له شمعاً قليلاً، فعمله مثل عقد الإصبع، ووضعها في أنفه فمات الفارس، فقلنا له مات؟ قال نعم كان يتعذب، سددت أنفه حتى يموت ويستريح». ويقص علينا التاريخ الأوروبي أيضاً أن البابا غريغوري الخامس عندما طرد الملك روبرت من الكنيسة، فإن خدم الملك كانوا يرمون الأكل له من النافذة حتى لا تلد الملكة أوزة. ففترة القرون الوسطى أو العصور المظلمة كانت مليئة بالخرافات المسيحية مع تغول الكنيسة وهيمنتها على نواحي الحياة كلها، حتى كان يصل الصراع أحياناً بين الباباوات والبلاط الملكي، ويضطر الملك إلى الخضوع لسلطة البابا. الكنيسة والفلسفة إذا أردنا أن نحدد أهم مرحلة في الفكر الغربي فإنها ليست مرحلة النهضة، بل هي مرحلة العصور الوسطى (الحقبة الزمنية بين العصور القديمة وعصر النهضة)، إذ كانت فيها الولادة من جديد لثقافة العصور القديمة، التي تشكلت فيها المقدمات لعصر النهضة، إذ شهدت هذه الحقبة بداية التعامل بين المسيحيين الأوائل والمفكرين الهلنيين. والذي قد يتبادر إلى الذهن أن اللاهوت المسيحي هو من أحكم السيطرة على الفلسفة، إلا أن الواقع يشهد أن الفلسفة الهلينية هي من أضرت بالمسيحية، فعقيدة الثالوث، مثلاً، صيغت بلغة فلسفية هلينية، وأدى إلى هذا فكرة سادت في تلك الحقبة، هي أن التقاليد الفلسفية من خلق الله أيضاً، فليس هناك غضاضة من التعبير عن المعتقدات المسيحية بعون من الفلسفة. وإذا رجعنا إلى نشأت المسيحية، فإن بولس الرسول المتوفى (64)، الذي كان يتكلم اليونانية بطلاقة، وأهم شخصية في تاريخ المسيحية بعد عيسى، كان متأثراً بالفلسفة اليونانية إلى درجة كبيرة. وفي فترة لاحقة من العصور الوسطى كانت الفلسفة واللاهوت فرعي التعليم الرئيسين، اللذين كانا يزعمان أنهما يؤديان إلى الرؤية الصحيحة، وخلال الفترة (1500-400) كانت الاجتهادات الفلسفية تقرر الوضع القائم، وكان أكبر فلاسفتها توما الأكويني، الذي طوب قديساً بعد موته، وألف كتابه «الخلاصة ضد الكفار»، الذي يمثل توجهاً كلاسكياً ضد النزعة الرشدية المتنامية، حتى قيل إنه جر أرسطو إلى المسيحية، وهو في هذا يذكرنا بموقف الغزالي وابن تيمية من التيارات السائدة في زمنهما، ولذلك فليس مستغرباً أن يخلع عليه البابا ليو ال13 وصف حامي المدارس الكاثوليكية عام 1880، إلا أن اعتماد الكنيسة على الآراء الفلسفة الأرسطية في تبرير قوانينها يفسر لنا فتح الباب أمام فلاسفة إنسانيين أذكياء لانتقاد الكنيسة من خلال بنيويتها الفلسفية غير الناضجة، واستناد الكنيسة إلى القانون الفلسفي في تبرير قوانينها، وجعل نفسها المفسر الوحيد مع كونها أداة في الوقت نفسه لإخضاع الشعوب للحكام المدنيين، كما جاء في (1-2 ROMANS13:): «لتخضع كل نفس للسلطات العليا. فلا سلطة إلا سلطة الله ثم سلطاننا، لذلك كل من يقاوم السلطة يقاوم قضاء الله، ومن يقاوم يجلب اللعنة لنفسه»، ومع بروز عوامل النهضة تلاشت تلك الفلسفة، التي نشأت في العصر الوسيط تدريجياً حتى اندثرت تقريباً نظراً إلى إخفاقها في متابعة تطور العلوم التجريبية. بداية التغيير في أوروبا يمكننا من ناحية فلسفية أن نقسم مراحل الفكر الفلسفي في أوروبا إلى ثلاث مراحل، وكلها كان يطلق عليها الفلسفة المدرسية: أولاً: الفلسفة المدرسية المبكرة (1200-400)، وكان الفكر السائد يتمثل بفكر أوغسطين والأفلاطونية الجديدة. ثانياً: عهد المدرسة العالية (-1200 إلى أوائل القرن ال14) عهد الأنظمة والتأليفات العظمى. ثالثاً: عهد المدرسة المتأخرة (من أوائل القرن ال14 إلى عصر النهضة)، إذ كان الفيلسوف الرئيس الإنكليزي وليام الأوكامي، الذي أعلن أن الإيمان والعقل مختلفان اختلافاً جوهرياً، مدافعاً عن الاسمية التي تقتضي التحول إلى ما هو تجريبي حسي، وهذا خلاف ما دعا إليه توما الأكويني، وما كان موجوداً في المرحلة الأوغسطينية، حتى نأتي على عهد المدرسية العالية في القرنين ال12 وال13 الميلاديين، وظهور بوادر التغيير الفكري من خلال فلسفة ابن رشد (1198-1126) مؤذنة بولادة عصر من العقلانية، حتى كان من أتباع ابن رشد من يعرف بمارسيليوس البدواني (1342-1275)، الذي كان معارضاً للبابا، وفي الوقت نفسه يترأس جامعة باريس، وتعد أطروحته (حامي السلام) الأكثر ثورية، التي جرت عليه الحرمان الكنسي. ويمكننا القول إن الثورة على الأخلاق المسيحية بدأت بالفعل مع ازدياد الرغبة في المعرفة في أوروبا، إذ بدأت العلوم تظهر شيئاً فشيئاً فنشأت الجامعات، وبدأ الاتجاه صوب الأدب الإغريقي، وقامت الحركة «الإنسوية» برعاية الأمراء والتجار المحبين للآداب والفنون، وصاحب ذلك أيضاً فائض في الإنتاج الاقتصادي، ونمو سكان المدن، واتسعت الثقافة بعد أن كانت مقتصرة في السابق على الكهنة، كل هذه الأمور كانت مقدمات لعهد التنوير. ومما أخذه الأوربيون عن الإغريق في تلك المرحلة أن اللذات غير ضارة، والميول الطبيعية ليست من الشيطان، فلا داعي لاعتبارها ذنباً، وهنا نلحظ بداية الصدام الناعم بين الفكر المسيحي الكهنوتي، وبين الفكر الجديد، الذي بدأ يولد من خلال نظرة جديدة إلى الحياة، لكن القوى التي تمخضت في تلك الفترة، وظهرت بوضوح في القرن ال16، لم تحدث ثورتها الأساسية في طريقة التفكير الإنساني إلا في القرنين ال17 وال18. ومن تلك القوى الانشقاق البروتستانتي عن الكنيسة الكاثوليكية، وما حمله معه من أفكار أدت إلى تجريد رجال الكنيسة من صفتهم المقدسة، وحرمانهم من رمزية الانتماء إلى مقام منفصل، ويمكننا أن نلخص هذه الثورة في كونها نوع من «الدمقرطة» الدينية، وكسر الوصاية، وتحرير الفرد من التبعية الإيمانية. ومع هذه التطورات أنشأت الكنيسة محاكم التفتيش، التي أحرق من جرائها مئات المتهمين بالزندقة والإلحاد. ولكن مع توسع العلوم التجريبية، وبروز مفكرين، أمثال ديكارت، وبيكون، اللذين هاجما الفلسفة القديمة، التي كان يتزعمها أرسطو، وأنها لا تعدو تعليماً خصامياً لا تقدم أية فائدة، وانصب الاهتمام على المسائل الرياضية، وما له علاقة بالحس والتجربة، وهنا بدأ الصدام يبتعد عن الشكل الناعم آخذاً شكلاً أكثر عنفاً، فمن (كوبر نيكس) وكتابه «دوران الأجرام السماوية»، إلى قانون الجاذبية مع نيوتن، وقبله اكتشافات غاليليو المثيرة للجدل، كل هذا أعقب أعظم عصر للشك الديني في العالم الحديث، وهو القرن ال18، الذي كان فيه ملك إنجلترا يشكو من أن نصف الأساقفة ملاحدة، وهو العصر، الذي أخرج ديفيد هوم، وإدورد غيبون، وفولتير، ولذلك يمكننا القول إن الثورة العلمية قوضت الإيمان بالله فعلاً، وجعلت الكنيسة تنزوي عن الحياة حتى كان العقد الثامن من القرن ال19، الذي أعلن فيه نتشه منهجه الرهيب، وهو أن الرب مات، وأن الإيمان صار لا حاجة إليه، وألقت هذه الفكرة ظلالها على أوروبا كلها. وكان الفلاسفة قبل نيتشه ينظرون إلى الأشياء على أن لها معنى، فالعالم والتاريخ عندهم عقليان، وعادلان، والوجود له معنى وغاية يصل إليها، وهذا العالم، الذي أنشأه الله منظماً يحتل فيه الإنسان مكاناًَ ذا مغزى، غير أن هذه الصورة تداعت بنظر نيتشه، فهي ليست في الواقع إلا تعبيراً عن حاجة الإنسان إلى تجنب الفوضى، فتهديد الفوضى، الذي نشعر به، هو ما حملنا على خلق هذه المعاني، فأصبحنا فنانين ميتافيزيقيين، وهذه المقولات المثقلة بالقيم خلقت في رأيه ما يسمى بالاغتراب الفلسفي، فالاعتقاد بوجود إله خارق للطبيعة أدى إلى اغتراب الخصائص الطبيعية للإنسان، وتمثلت دعوة نيتشه في استرداد هذه الخصائص بوصفها ملك الإنسان وإنتاجه. * كاتب سعودي.