تحدثنا في المقال السابق عن المحور الرابع من محاور شبهة تعارض الدين مع العلم، وذكرنا أقوال العلماء المنصفين من علماء الطبيعة. وقبل إنهاء هذا المحور لا بد من الوقوف عند أشهر ملحد معاصر، بل أكبر ملاحدة العصر الحديث، الذي تعتبر كتاباته جدول أعمال للفكر الإلحادي طوال النصف الثاني من القرن العشرين، الذي تزعم الموجة الإلحادية في العالم لما يزيد عن نصف قرن، وألف كتباً في الإلحاد تجاوزت الثلاثين كتاباً، وبحوثاً فلسفية، كانت العمدة عند ملاحدة العصر الحديث، إنه أنتوني فلو. ولد عام 1923م، وتوفي عام 2010 م. فيلسوف بريطاني اشتهر بكتاباته في فلسفة الأديان، كان طوال حياته ملحداً، وفي آخر حياته أقر بوجود إله فألف كتابه (هناك إله). لقد كان فلو مدافعاً عن الإلحاد منافحاً عنه، وطرح حججاً جديدة ضد الإيمان بالله، ورسم بأفكاره منهجاً فلسفياً لمن أراد أن يعارض الإيمان والتدين طوال تلك المدة الطويلة من حياته. هذا الملحد الذي يعتبر ركناً من أركان الإلحاد المعاصر، فاجأ العالم بأمر لم يتوقعه الملاحدة، حيث أصبح في آخر عمره متصدياً للإلحاد، ومحارباً له. حدث التحول في حياة فلو عام 2004م، حيث أعلن بعد أن تجاوز الثمانين من العمر أنه قد صار يؤمن بأن هناك إلهاً. أصاب الخبر ملاحدة العصر بصدمة شديدة، وقلب لهم ظهر المجن بإعلانه هذا الذي يقر فيه بوجود إله. بعد هذه الرحلة الطويلة مع الإلحاد وبعد بلوغ الثمانين سنة من عمره، يكتشف الحقيقة ويعترف بوجود إله. ويرى في نهاية مطافه الإلحادي أن العلم الحديث يجلي أموراً منها: أن قدرة العقل الإنساني على التفكير المنطقي في الأمور المادية وفي المفاهيم المجردة، وإدراك ما يحيط بنا وما بداخلنا، وإدراك الإنسان لذاته، لا يمكن أن تكون صادرة تلقائياً عن المخ البشري المادي. لقد أصبح لا مفر من اللجوء إلى عالم ما وراء الطبيعة لتفسير قدرات العقل الخارقة. وقال عن سبب هدايته: ليست معطيات العلم الحديث فقط هي التي دفعتني لتغيير قناعاتي، ولكن أيضاً أعدت النظر في البراهين الفلسفية التقليدية التي قادتني من قبل إلى الإلحاد، ثم طبقت نفس القاعدة السقراطية المنهجية التي اتبعتها طوال حياتي الفلسفية الملحدة: (أن نتبع البرهان إلى حيث يقودنا)، فقادني البرهان هذه المرة إلى الإيمان. إذن العلم هو الذي قاد أكبر ملحد معاصر إلى الإيمان، فأين التناقض الذي تدعون؟! لا يمكن أن يقود متناقضان أحدهما إلى الآخر؛ لأن كلاً منهما في اتجاه معاكس، فلما قاد العلم الكثير ممن ضل إلى الإيمان، كان هذا دليلاً على خطأ ذلك الادعاء التناقضي الكاذب بين الدين والعلم. وهذا الدكتور مصطفى محمود الذي مر بمرحلة الشك والإيمان، إلى أن هُدي إلى الإيمان بالله عز وجل، يقول: “إن العلم الحق لم يكن أبداً مناقضاً للدين بل إنه دال عليه مؤكد لمعناه. وإنما نصف العلم هو الذي يوقع في الشبهة والشك”. وقال: “والدين لا يرفض الحياة ولا يرفض العقل، والإسلام بالذات ينطلق من مبدأ حب الحياة والحرص عليها ورعايتها، ويحض على احترام العقل وعلى طلب العلم”. وللحديث بقية. عبدالعزيز السريهيد [email protected]