هيَ جميلةٌ و قد لا يَحتاج شاعرٌ رؤيةَ كُلِّ هذا الجمال .. لِيكتبَ شيئاً ذا بال .. حين أقْبَلَتْ عليه كان المشهَدُ يَفتَقِرُ إلى شاعِرٍ آخر غيرَه حتَّى يَتَوَرَّطَ ذلك الشاعرُ في فِخاخِ الوَصفِ أو الغَزَل .. أما هو و إنْ كان شاعراً فإنَّهُ لا يُحْسِنُ ارتِجالَ القصيد ! لو كانَ في مكانِهِ شاعرٌ آخر .. فَلَرُبَّما انداحَتْ في دماغِهِ قَطرَةٌ مِنْ صَهباءِ الوَسَن ! فَرأى فيما يُشْبِهُ النُّعاسَ أو سِنَةً مِنْ ذلك النُّعاس .. مَشْهَداً لا يَقِلُّ عَنْ لَوحاتِ سلفادور دالي إدارةً لِرَحَى الدَّهشة على ثِفالٍ مِنْ فلسفةٍ أو حكمةٍ شاعريَّة ! ما مِنْ سَفيرٍ أمينٍ يَنقُلُ الرَّسائلَ بينَ المنطِقِ و النُّعاس .. و لذلك نرى في نُعاسِنا أحلاماً غيرَ مَنطقِيَّة .. نُشقي بِها مَنْ يَزعمونَ تأويلَ الرُّؤى و ما هِيَ بِرُؤى .. و لو عاد الكَلامُ إلى الشاعرِ الآخر المتَوَرِّطِ في فِخاخِ الغَزَل لَقالَ عَن خطواتِ الحَسنَاءِ طَيِّبَةِ السِّيرَةِ .. ( إنَّها تَمسَحُ بِباطِنِ قَدَمَيها على صَفَحات المياهِ .. كما يَفْعَلُ تِلميذٌ هاربٌ مِنَ الصَّفِّ المدرسي .. حينَ يَهمِزُهُ الضَّجَرُ فَيَختار حَجَراً صغيراً .. فَيَقذِفُهُ بِمَهارةٍ إلى الغَديرِ فيُلامِس الحَجَرُ المياهَ لمسةً خاطفةً ثُمَّ يَطيرُ مُنخَفِضاً ثُمَّ يُغافِل المياه بِلَمسَةٍ أخرى ثُمَّ يطير الحَجَرُ تارةً أخرى و هكذا دواليك .. أمَّا الحَجَرُ فَيَستَقِرُّ آخِرَ أمرِهِ فَيَكون سِرّاً مِنْ أسرارِ الغَدير .. و أمَّا الحَسنَاءُ فَمآلُها مَخبُوءٌ إلى حين ! ) لَم يَكونا على مَوعِدٍ فَهِيَ كالشَّمسِ جميلة .. و لكنَّها اليومَ عابِرَة .. و سَتَعْبُرُ غداً كذلك .. أمَّا شاعرنا فَهوَ مُقيمٌ مثل حِقدِ البَعير ! و لا يدري أي مُصادَفةٍ تلك التي تأتي مثل رؤيا .. يَسيلُ فيها العَسَلُ مَشُوباً بالدِّماء ! في موازينِ شاعرِنا تَطفيفٌ مُسْتَساغ ! لا تَلُوحُ أشراطُهُ إلا في حَضرَةِ الغِيد ! و لذلكَ دار بينَهُ و بَينَ رفيقةِ اللحظةِ حِوارٌ غير مَوصوفٍ لا بِطُولٍ و لا قِصَرٍ ازدادَ بِهِ الشَّاعرُ شَغَفاً بالمراوغةِ و ازدادَتْ هِيَ حَيرَةً و حِينَ أرادت أنْ تَبحَثَ لنفسها عَن مَهرَبٍ من ذلك اللقاء الذي استَنفَرَ جِراحَها شَهَقَتْ و هِيَ تَحشُرُ في حَقائِبِ الكبرياء مناديلَ مُلَوَّثَةً بِبَقايا كُحلِها فقالت للشاعر : ( لَعَلَّ مُصادَفَةً تَنعَقِدُ على حِبالِ الأيَّامِ المُقبِلَةِ فَيُسعِفكَ الشِّعرُ بِكَلماتٍ تَسمو بِكَ إلى مَقصورَةِ امرأةٍ جميلة ) فَقالَ الشَّاعرُ الماكِرُ : ( أنا لا أحِبُّ المرأةَ القبيحةَ و لكنني لا ألتَفِتُ إلى المرأةِ الجميلة ! ) فَقالت : ( هذا غُرورُكَ إذن ) .. فَرَدَّ عليها و هو يَنفضُ غُباراً يَسيراً عالقاً بِطَرَفِ رِدائِهِ : ( أبْحَثُ عَنْ فَتْوى يَجتَازُ بِها قَلبي ضَبابَ الأسارير ! و تَحِيدُ عَن الصَّوابِ في تأويلِه ! ) وَ أبْحَثُ عَنْ مَلامِح أرمَلَةٍ تُحَرِّضُني على ( إعادةِ النَّظَر ) ! يقولُ عنها النَّاسُ : ( إنها ليست جميلة ) .. و أقول عنها أنا : ( هي ليست قبيحة ) .. ( أبْحَثُ عَنْ جِدالٍ وَ غافِلَةٍ تَسْبَحُ في بَيتٍ مِنَ الشِّعرِ ! بَيتٍ مِنَ الشِّعرِ لُجَّتُهُ .. ( وَ يَسهَرُ الخَلقُ جَرَّاها وَ يَختَصِمُ ** **