كان أبو عمرو بن العلاء يقول: «إنما شعر ذي الرمة نُقَط عروس تضمحل عن قليل، وأبعار ظباء لها مَشَمٌّ في أول شمها، ثم تعود إلى أرواح البعر»، وقال الأصمعي شارحاً هذه العبارة النقدية: «إن شعر ذي الرمة حلو أول ما تسمعه، فإذا كثر إنشاده ضعف ولم يكن له حُسن؛ لأن أبعار الظباء أول ما تُشَم توجد لها رائحة ما أكلَتْ من الشيح والقيصوم والجثجاث والنبت الطيب الريح، فإذا أَدَمْتَ شمه ذهبَتْ تلك الرائحة». ولو أراد القارئ أن يُنزِل هذه الوصف للحالة التي مثّلها شعر ذي الرمة على بعض الأسماء اللامعة في الشعر السعودي؛ لوجد كثيراً من هذه الأسماء التي ملأت صحافتنا الأدبية ردحاً من الزمن؛ فاستقر في الأذهان أن الشعر الذي ينتج عن هذه الأسماء هو المثل الأعلى في الشعر السعودي. إن من مشكلات الثقافة ما سمّاه عبد الله الغذامي: صناعة الفحولة؛ فقد أبرزت لنا الساحة الثقافية والأدبية فحولاً من الشعراء، وحين قرأنا دواوينهم بمعزل عن الشحن الذهني الذي كان يوجِّه التَّلقي؛ وجدنا أننا أمام رموز هشّة من حيث فنيّة الشعر، لا يسعفها لهذا الاحتفاء غيرِ المسوَّغ أنها ظهرت في زمنِ تحوُّلٍ ما، فإن المعوّل على المستوى الشعري، وليس على المرحلة الشعرية، يقول ابن قتيبة في معرض نقده للشعراء: «ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له، سبيلَ مَن قلّد، أو استحسنَ باستحسان غيره. ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدُّمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخُّره». وقد برزتْ في الشعر السعودي إعلامياً أسماءٌ كثيرة، أخذ بعضها أكثر من حقه من الدراسات، والاحتفاء النقدي المجامِل. وحين تأملت - على سبيل المثال - دواوين علي الدميني لم أجد شعراً يُوازي الهالة الإعلامية والاحتفائية التي أحاطت باسمه! شعرية القصيدة لا شعرية الجملة: كان شعراء مرحلة الحداثة الشعرية مهتمين بنسيج القصيدة؛ إذْ «كانوا يغزلون الجملة الطازجة التي تفاجئ القارئ بالصورة البِكر، والتركيب المدهش، والتعبير المخاتِل، كانوا يُشيِّدون معها، أو بها، أو عبر تتابعها معمارًا نصيًا باذخ الرصف، أنيق التلاحم، وكما يسري التيار الكهربائي متتابعًا دون انقطاع تستمر القصيدة مندفعة في طريقها، وصاعدة نحو قمتها المفترضة التي هي في الوقت نفسه قرارها الأخير، ورؤيتها الكلية نحو العالم، فينفتل القارئ عنها وقد راعته بأمرين: تراكيبها البديعة، ورؤيتها الملهِمة» ] انكسار القارئ أمام النص الحداثي المفكك، سامي العجلان[، وما من شك أن الشعرية هي أساس الشعر، وإذا فقدها فقدَ أهم ركائزه. ويمكن أن نستشهد بمحمد الثبيتي وغازي القصيبي وعبد الله الزيد نماذج مشرقة فنياً لذلك الجيل، إلا أن بعض شعراء تلك المرحلة يمكن أن يوصف بأنه كان «يمضي موغلاً في صبغ النص بالصورة حتى يوشك أن يصبح مجموعة من الصور تختزن من الإدهاش والإغراب ما يستوقف المتلقي» ] تَنَوّرتُها من أذرعات، عبد الله بن سليم الرشيد، 193، ويُنظر: قليل من المجاز يكفي، حسين بافقيه[، وحين نتأمل تلك العبارات الشعرية فإنها تدهشنا حين ننتزعها من سياقها، أما في سياقها فربما خلخلت نسيج النص، وأربكت تماسُكه.. ولو تأملنا قول الدميني: أيتها البريّة الحبلى بأثداء العطش وحواصل الطير احتفظي بسدرة الوردة ونعاس النجوم فلو شققت قميص الأغنية لرأيت قلاعاً من سلاسل خطواتي حول حفريات أسفارك ونحل بردياتك ] بياض الأزمنة، 110[ لوجدنا أنه واقع فيه - وفي كثير من نصوصه - فيما سماه علي عشري زايد: الخضوع لإغراء الصورة ] عن بناء القصيدة العربية الحديثة، 98[؛ إذ تتزاحم الصور الاستعارية وتكتنز بالتفاصيل التصويرية التي لا تترابط ترابطاً يخدم النص والفكرة، بل هي متفرقة تفرُّقاً يشتت المتلقي، ويضيّع النص؛ فصورة أثداء العطش الجزئيةُ صورةٌ مبتكرة، وجاذبة أيضاً صورة نعاس النجوم، ولافتة كذلك صورة قميص الأغنية، ولكن الصورة الكلية ركيكة غير متناسقة، فالذوق الشعري لا يقبل صورة البرية الحبلى بالأثداء، كما أن استعارة السدرة للوردة استعارة نافرة، إضافة إلى بهوت صورة قلاع من السلاسل.. وبعد أن نتأمل الصورة الكلية لهذا المقطع الذي ألحّ الدميني على تكثيف الصور الشعرية فيه تبدو لنا صورةً مخلخَلةً. انغلاق النص: ومن جهة أخرى يظهر لنا نصّ الدميني السابق - وهو مثال لظاهرة في شعره - منغلقاً منكفئاً على ذاته لا يفصح للمتلقي بشيء. ويقول في جزء من قصيدة موغلٍ في النثرية ] رياح المواقع، 68[: قلت: ماءً فجاء لي الماء، قلت: السماءَ، فلم يلتجئ نحو كفي نجم، وقلت: المساءْ. قالت الأرض: هل أنت؟ قلت: أنا، وتمددت تحت الغطاءْ. في الممر التقيتُ بوجه صديق قديمْ قلت: كيفك؟ ] هكذا![ كيف الوظيفة والأمنياتْ؟ قال: إنا نعيش إلى يجيء المماتْ. وهذا الشعر مع تلبّسه بالنثرية شعر منغلق لا يقدم للقارئ ما يمكن أن يعينه على التأويل، فلا رابط بين الماء والسماء، ولا معنى لعبارة (قلت: المساء)، كما أن الحذف في سؤال الأرض إياه: هل أنت؟ حذف مبهِم؛ فليس في النص ما يهيّئ الذهن لاستظهار المحذوف، ثم انتقل إلى صورة صديقه المتقاعد وأحدث في النص فجوة شاسعة، وكان الحوار نثريّاً متوقَّعاً غير مدهش، فهو أشبه بالخاطرة، وليس له من الشعر إلا الوزن! وقد يكون مقبولاً أن ينغلق النص بسبب اكتنازه بالصور الشعرية، أما أن يستغلق فهمه مع نثريته فليس مقبولاً. أما قصيدته التي عنوانها: وقت لعبدالله بن الياس، فيقول فيها ] رياح المواقع، 102[: أيها الدم مكتحلاً باليمام تهجد، فذي جبهتي وطأتها ]هكذا![ الحوافر والصافنات خُصَّ لي من صبايا الحجاز ثمانين مجمرة وأرحني إلى شجر ومبات ] هكذا![ وتجمل إذا ما تعريت من جسدي وأجرني إذا كان هذا أوان الممات في فراغ الحوانيت يلتحف الواقفون على العتبة بمساء له جمجمةْ وصباح بلا رقبةْ الكراريس منقوعة في الندى والأصابع مزدانة بالذباب وبالأتربةْ أترى ملك الموت أم جبروت التخلّق هذا المسيّج فوق الخرائب والحمحمةْ؟ خيلنا أرهقت راكبيها وخيّالنا أجهد المركبةْ بَ (فتحة) تَ تَ (فتحة) بَ إن الذائقة لا تقبل صورة اكتحال الدم باليمام! ولا تَهَجُّد الدم مكتحلاً باليمام. ويبدو أن الدميني يستمر في خضوعه لإغراء الصورة فينساق خلف الاستعارات والتصاوير الغريبة، فيبدع في بعضها كالتحاف الواقفين في فراغ الحوانيت بمساء...، ولكنه يترك هذه الصوَر الجزئية تائهة في صورة كلية لا يربطها رابط، تماما كما تجد نفسك أمام لوحة لم يكلّف رسامُها نفسَه إلا أن يلطخها بالألوان، وربما تجاور لونان مصادفة فَرَاقَك منظرهما متجاورين، إلا أنك في النهاية لا تفهم سرّ اللوحة؛ ولا الفكرة التي يريد الرسام إيصالها، لأنهما لا يلائمان سائر الألوان في اللوحة، وليس للوحة إطار يضبط حدودها، وها هو ذا الدميني يقدم القصيدة متشعثّة، تدهشك بعض صورها وتراكيبها حين تنتزعها من سياقها، مثل قوله - وقد أجاد -: خيلنا أرهقت راكبيها وخيّالنا أرهق المركبةْ ولكنه عكّر صفوه بالعبارتين التي وليته: بَ (فتحة) تَ... إلخ. وفي مقطوعة أخرى عنوانها: رنين في الحديقة ] ...مثلما نفتح الباب، 59[، يقول الدميني: كارثة رسمية لمعان الأصابع ورود الباب إيميل لوحة حرف هكذا هذه هي المقطوعة كاملة كما أثبتُّها! يقول المنفلوطي: «إذا سمعتَ بيتاً من الشعر فأطربك، ...، فاعلم أنَّه من بيوت المعاني، وأن هذا الذي تركه في نفسك من الأثر هو روحه ومعناه. وإن مررت ببيتٍ آخر فاستغلق عليك فهمُه، ...، وخُيّل إليك أنك بين يَدَي جثةٍ هامدةٍ لا روح فيها؛ فاعلم أنّه لا معنىً له ولا حياةَ فيه، فإن وجدت صاحبَه واقفاً بجانبه يحاول أن يوسوس لك أن وراء هذه الظلمة الحالكة المتكاثفة نوراً متوهجاً يكمن في طياتها فكذِّبْه، وفِرَّ بنفسك وأدبك وذوقك منه فراراً لا عودةَ لك من بعده» ] النظرات، 3/195[، وبما أن النص الحديث مجال واسع للتأويل، فمهما حاول أن يوسوس الشاعر بأن مراسَلةً كانت عبر البريد الإلكتروني، ثم قُدّمت باقة ورد، وامتدت يد من وراء الباب وتسلّمت الباقة، وأن هذا الأمر من الممنوعات أو الكوارث الرسمية - كما عبّر -؛ فإن هذا ليس بشعر، وتأمّل شعورك حين تقرأ نص الدميني، ونشوتك لقول شوقي: نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ خفوت التقنيات الشعرية: تقنية استلهام التراث من أبرز التقنيات التي تكثّف الشعرية، وقد أكثر من استخدامها الشعراء في العصر الحديث، إلا أن هذا الاستلهام يجيء باهتاً وكأنه استلهام لمجرد الاستلهام، وليس لمقتضى النص! يقول الدميني في قصيدة مختلة الوزن، عنوانها يمامة عل جداية الأزمة ] ...مثلما نفتح الباب، 64[: ما الذي تتقراه يا ابن سنانٍ ليلنا غاب في جانبيه النهار خيل عبسٍ تعيث في ذبيان والقوافي تفر منها المعاني أما حين يقتبس من القرآن الكريم فإنه يُظهِر النصَّ المقتبَسَ في صورة تدل على أن النص بُني لأجل الاقتباس، كقصيدة: صباح النساء ] ...مثلما نفتح الباب، 19[: أتانا على البعد أن الإناء تجمّع في الماء أن النساء يلدن لنا غير أطفالهن وينقشن في ساعة... خير أسمائهن ويكتب، قل واعملوا سيرى الخلق أعمالكن وبِغضّ النظر عما يكتنف النص من انغلاق، وركاكة قلب الصورة في (أن الإناء تجمّع في الماء)؛ إذ تبدو الصورة غير قابلة للشعرية، بغضّ النظر عن هذا كله فإن إضافة الواو بعد (قل) قد جعلت توظيفه للاقتباس يَظهر في مظهر اعتسافي، وكأن المهم هو الاقتباس فحسب، وليس كيفيته. أغلاط لغوية، وانكسار في الوزن وبعض قصائده لم تسلم من الأغلاط اللغوية، وقد بيّنتُ مواضعها بين معقوفين في النصوص التي استشهدتُ بها. أما الوزن فليس عنصراً هامشياً في الشعر، ومهما حاول بعض الشعراء أو النقاد التقليل من شأنه، وأن الشعرية هي عماد الشعر، فهو ركن أساس من أركان الشعر، ولا يكون الشعر إلا به، فثم فرق بين الشعرية - الأدبية والشعر. ويبدو أن الدميني غير متمكن من الوزن، سواء أكان في التفعيلة، أم في العمودي.. ومن شواهد الاختلال - وهي كثيرة - هذه الأبيات الخمسة من ضمن أحد عشر بيتاً على البحر الخفيف ] رياح المواقع، 80[، أي ما نسبته (45.45%) من القصيدة!: هل أنا كالسيوف المدماة وأنتهل تناءت بالعاشقين الديار بمياه الخليج يزدان بالموج يوم نغدو وقد تجمّع فينا النهمن أسى الأرض، من تراب المحبم أوجاعكم تُستعاد وترقى ومِهْران هل باع سلمى وعقّا وبالضفاف الولودة غرباً وشرقا ار وشقت بنا المفاوز شقا ين نستلّ ذاك الصباح المنقى ومما يدل على خفوت حسه في الإيقاع أنه في السطر الشعر الذي يقول: أترى ملك الموت أم جبروت التخلّق هذا المسيّج فوق الخرائب والحمحمةْ؟ قد جمع في سطر واحد إحدى عشرة تفعيلة! وبتأمل دواوين الدميني ظهر لي أنه يخفق في كتابة القصائد؛ لأنه لا يستطيع الإمساك بزمام الغرض أو الموضوع، بل تتفلت منه القصيدة، وتقوده الصور، والواجب أن يقودها هو، فتجنح به خارج سياقات الصور الكلية؛ فتأتي القصيدة مشوهةً، وأستثني من ذلك بعض قصائده، كقصيدة: بدايات، ] ... مثلما نفتح الباب، 44[. وللدميني مقطوعات قصيرة جميلة، مثل: بيدين عاريتين كان يطل وردٌ من عباءةْ وإلى جوار سلالم الكلماتِ كان الباب مبتسماً لأصعد نحو ظني لكنني واربت نافذتي على قلقي، وقلت لها: اشهدي إني «رضيت من الغنيمة» بالتمني! ويبدو أن سبب جمالها أن قِصَر المقطوعة لا يتيح له مجالاً للانجراف مع المجازات التي لا رابط يشدّها إلى بعض، خلافاً للقصيدة التي تنفلت من سيطرته على بنائها. وبناء على ما تقدم يظهر أن تماسك النص، وتنسيق صوَره مع بعضها هو مكمن التفوق، وليس ابتكار الصور فحسب، وأن النص الذي تروعك صوَره عند قراءته الأولى ربما تجد بعد تأمّله أنْ لا شيء وراء هذه الصوَر، بل قد تجد النسيج مفككا، ولا تشفع له جِدّة الصور كما عند الدميني.