المنخل اليشكري { وهذا كان نديما للنعمان ابن المنذر، ويقال إنه كان على علاقة مع امرأته المتجردة، وكانت فاجرة وهي المتجردة التي وصفها النابغة الذبياني، ويقال، وهي رواية مشكوك فيها إنّ المنخل قال للنعمان إنّ من قال هذا الوصف الدقيق لا بدّ أنه قال ذلك عن عيان، فبلغ الأمر النابغة فخاف من انتقام النعمان ففرّ إلى الشام ولجأ إلى الغساسنة، ولكنه نظم غير قصيدة يعتذر للنعمان فقبل اعتذاره وآواه مرة أخرى ثمّ إنّ النعمان اكتشف علاقة المنخل مع زوجته فأمر بقتله، والمنخل كما سيتضح من قصيدته يمثل سمة من سمات الجاهليين بالإضافة إلى ما سبق أن أوضحناه وهي الاستغراق في اللهو والملذات الحسية كما وجدنا عند امرئ القيس وكما نجده عند طرفة والأعشى، على أنّ الحب العذري وجد أيضا بجانب الحب الحسّي كما نجده عند المرقش الأكبر وله قصة لا أريد أن استطرد وأذكرها، والنعمان كان طاغية ومستبدا، وكان أبوه المنذر طاغية مثله، وكان له يوم بؤس ويوم سعد، وكان يقتل أول من يصادفه في يوم نحسه، هكذا جزافا ومن غير جريرة، والمناذرة كانوا طغاة، وكلنا نعرف قصة عمرو ابن كلثوم الذي قتل الملك عمرو ابن هند الذي كان هو الآخر مستبدا، وأشهر واحد من الذين قتلهم المنذر شاعر بني أسد عبيد ابن الأبرص، والذي جاءه في يوم بؤسه، رغم أنه كان معجبا بشعره ولكنّ غريزة الاستبداد أقوى من أيّ غريزة أخرى، وقد شهد العصر الجاهلي العديد من الطغاة، وقد قلت ذلك في هذا النثار وفي كتابي معنى المعنى وحقيقة الحقيقة، وقد ذهبت فيه إلى أنّ الشعر الجاهلي كان وليدا لصراع بين نظام مستبد وآخر مستضعف، وعبيد نفسه الأسدي كان طرفا في هذا الصراع ونظم فيه شعرا ليس بالقليل ومنه: سقينا امرأ القيس ابن حجر ابن حارث *** كؤوس الشجا حتى تعوّد بالقهر وألهاه شرب ناعم وقراقر *** وأعياه ثأر كان يطلب في حجر وذاك لعمري كان أسهل مشرعا *** من البيض الصوارم والسمر كما يقول: يا ذا المخوفنا بمقتل شيخه *** حجر تمنى صاحب الأحلام حجر غداة تعاورته رماحنا *** بالقاع بين صاصف وأكام وهو في هذين البيتين يرد على امرئ القيس الذي قال: والله لا يذهب شيخي باطلا حتى أبير مالكا وكاهلا القاتلين الملك الحلاحلا ومالك وكاهل من شيوخ بني اسد، ومن ناحية أخرى كان هناك الصراع بين قبيلة بكر وقبيلة وائل، والسجال الشعري الذي تولد منه بين المهلهل والحارث ابن عباد، وبجانب الانتفاضة على المستبدين كان هناك الرفض للخطاب المتسيد الذي يتمثل في شعر طرفة والشنفرى، وطرفة كان بإمكانه أن يكون مقولبا ويخضع للخطاب السائد، إذ يقول: فلو شاء ربي كنت قيس ابن خالد *** ولو شاء ربي كنت عمرو ابن مرثد فأصبحت ذا مال كثير وزارني *** بنون كرام سادة لمسوّد ولكنه رفض ذلك وتحدى الخطاب السائد إلى أن تحامته العشيرة إلى أن تحامتني العشيرة كلها *** وأفردت إفراد البعير المعبّد والشنفرى يقول: أقيموا بني أمّي صدور مطيكم *** فإني إلى قوم سواكم لأميل وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى *** وفيها لمن خاف القلى متعزل ولى دونكم أهلون سيد عملس *** وأرقط زهلول وعرفاء جيأل هم الأهل لا مستودع السرّ ذائع ** لديهم ولا الجاني بما جرّ يخذل السيد: الذئب، والأرقط: الأفعى، والعرفاء: تطلق على الضبع، وهناك تناص بين: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى، مع ما قاله لبيد: تراك أمكنة إذا لم أرضها، ومن ذلك ندرك أنّ هذه سمة من سمات الجاهليين، وبجانب رفض الخطاب المتسيد هناك الثورة التي أشعل أوارها الصعاليك ألذين كانوا يغيرون على الأغنياء ويوزعون الغنيمة على الفقراء وفي مقدمتهم عروة ابن الورد الذي يقول: وأني امرؤ عافي إنائي شركة *** وأنت امرؤ عافي إنائك واحد أفرق جسمي في جسوم كثيرة *** وأحسو قراح الماء والماء بارد وأذكر القارئ ببيت أوس ابن حجر: زعمتم الغول والرجام لكم *** ومنعجا، اذكروا فالأمر مشترك مما يدل على تردد كلمة الشراكة أو الاشتراك في الشعر الجاهلي، مما نجد صداه فيما بعد عند المعري: لو كان لي أو لغيري قيد أنملة *** من البسيطة خلت الأمر مشتركا وقريب من هذا قوله: فلا هطلت عليّ ولا بأرضي *** سحائب ليس تنتظم البلادا وصفوة القول أنّ العصر الجاهلي تميز بالانتفاضات والثورة على الطغيان ورفض الخطاب المتسيد، وإن كان قد شابه شيء من اللهو والمجون، خاصة عند المنخل اليشكري الذي يقول: ولقد دخلت على الفتاة الخدر في اليوم المطير الكاعب الحسناء ترفل في الدمقس وفي الحرير فدفعتها فتدافعت مشي القطاة إلى الغدير فدنت وقالت: يامنخل ما بجسمك من حرور ما شفّ جسمي غير حبك فاهدئي عني وسيري ياربّ يوم للمنخل قد لها فيه قصير ولقد شربت من المدامة بالصغير وبالكبير فإذا انتشيت فإنني ربّ الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني ربّ الشويهة والبعير وإذا كان ثمة من يعترض على هذا المجون ويأباه، فإنه لن ينكر ما هذه الأبيات من سرد وحوار جميلين، ويلفت النظر خلوّ هذه الأبيات من وعورة الشعر الجاهلي وسلاسة الفاظه، واحتواء قاموسها على ألفاظ لا توجد عادة في الشعر الجاهلي كالدمقس والحرير، والسبب أنّ الشاعر عاش في بيئة مرفهة ولم يتعرض لوعثاء الصحراء ومفازاتها التي عاش فيها معظم الشعراء الجاهليين، إنه مثل عدي ابن زيد الذي عاش في الحيرة وبلاط كسرى، فشعره سلس وألفاظه قريبة المتناول، ومن قوله: ربّ قوم قد أناخوا عندنا *** يشربون الخمر بالماء الزلال عمروا دهرا بعيش حسن *** آمني دهرهم غير عجال ثمّ اضحوا عصف الدهر بهم *** وكذاك الدهر يودي بالرجال والأبيات فيها حكمة بالغة وسرد جميل، وعدي هذا قتله النعمان الثالث، وهكذ أتينا في هذا النثار إلى مقتل ثلاثة شعراء على يد المناذرة، وهم ولا ضير من التكرار عبيد ابن الأبرص والمنخل اليشكري وعدي ابن زيد، مما يثبت طغيان هؤلاء القوم واستبدادهم، على أنّ الدهر قد أودى بهم في النهاية كما سجله لنا التاريخ، وفاتني رغم ماله من أهمية أنّ أذكر أنّ أحد المناذرة وهو عمرو ابن هند قد قتل طرفة ابن العبد، ولهذا قصة يستوجب السياق أن أذكرها، فقد لجأ إليه طرفة بعد أن تجنبه قومه، وكان عنده خاله الشاعر المتلمس، وكان لعمرو هذا ايضا يوم بؤس ويوم نحس، فيوم يركب صيده يقتل أول من يلقى، وكانت تلك عادته فهجاه طرفة: ليت لنا مكان الملك عمرو *** رغوثا حول خيمتنا تخور لعمرك إنّ قابوس ابن هند م ليخلط ملكه نوك كثير قسمت الدهر في زمن رخيّ م كذاك الحكم يقصد أو يجور لنا يوم وللكروان يوم م تطير البائسات ولا نطير فأمّا يومهن فيوم نحس *** تطاردنه بالحدب الصقور وأمّا يومنا فنظلّ ركبا *** وقوفا ما نحلّ وما نسير الرغوث : الشاة المرضع، النوك: الحمق ويبدو أن هذه الأبيات وصلت إلى سمع عمرو ابن هند، فاستدعى المتلمس وطرفة، وأعطى كلّ واحد منهما رسالة إلى عامله في البحرين، وأوهمهما أنه سيكافئهما، وفي الطريق إلى البحرين شكّ المتلمس في الأمر، ولم يكن يعرف القراءة، فطلب من غلام لقيه على قارعة الطريق أن يقرأها له، فوجد أنّ فيها أمرا بقتله، فطلب من طرفة أن يعطي رسالته للغلام ليقرأها فأبي، فافترقا وذهب طرفة إلى البحرين ليلقى حتفه، أما المتلمس فألقى الرسالة وفرّ هاربا لا يلوي على شيء وأنشد ألقى الصحيفة كي يخفف رحله *** والزاد حتى نعله ألقاها وفي هذا البيت غير شاهد من شواهد النحو، فهناك نصب الفعل المضارع بعد كي، ونصب الأسم (نعله) بعد حتى، على أنّ الأسم يرفع بعد حتى إذا جاء في أول الكلام كما في قول امرئ القيس: سريت بهم حتى تكلّ مطيهم *** وحتى الجياد ما يقدن بأرسان والجياد هنا مرفوعة، وفي البيت شاهد آخر وهو أن الفعل المضارع يكون مرفوعا إذا سبقه فعل ماض، والتقدير هو: سريت بهم حتى كلت مطيهم، والقاعدة هي أنّ الفعل المضارع ينصب بعد حتى، كما في: « لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون » وتنفقوا منصوبة وعلامة نصبها حذف النون، كما يقول ابن مالك في ألفيته وحذفها للنون في النصب والجزم سمة *** كلم تكوني لتقولي مظلمة وعسى ألاّ أكون قد أخطأت في رواية البيت، فقد حفظت الألفية وأنا في مقتبل العمر، ثمّ نسيت أغلبها، وما يحفظ ينسى بعد حين، ولهذا يجب أن نلغي أسلوب الحفظ في التعليم، ونعود إلى طرفة الذي يبدو أننا ابتعدنا عنه، فموقفه صدر عن مزاجه وهو الإباء والرفض، وقد سبق أن قلت أنهما من سمات الجاهليين، وهي سمة تميز بها عمرو ابن كلثوم الذي قتل عمرو ابن هند، الذي طلب من زوجته أن تهين أمّ عمرو ابن كلثوم في قصة ذكرها صاحب الأغاني، والتي أسفرت عن معلقة عمرو بن كلثوم مما يؤكد ما ذهبت إليه من أنّ الشعر الجاهلي وليد صراع ضدّ المستبدين، ولا أجزم بأنّ عمرو ابن هند الذي قتله عمرو ابن كلثوم، هو نفس عمرو ابن هند الذي قتل طرفة أم واحد غيره، وقد رجعت إلى المظان التي لدي فلم أجد ضالتي، وللنثار بقية.