كان السائد في روسيا عندما تقول إن فلاناً من طبقة الأنتلجنسيا يتبادر إلى الذهن فوراً أنك أمام رجل أنيق ذي مظهر جيد من الطبقة المتوسطة، يحمل درجة علمية تؤهله للحديث في الشأن السياسي العالمي، وبمرور الوقت أصبح عدد من الناس يستخدم مصطلح الأنتلجنسيا بشكل يسخر من هذه الطبقة المثقفة من البرجوازيين الذين لا يفعلون شيئاً عملياً أكثر من انتقادهم للمشكلات الأخلاقية للمجتمع. ويعود استخدام هذا المصطلح الرائج عند النخب المثقفة حول العالم إلى نهاية الحقبة القيصرية في روسيا مع ازدهار صناعة الصحف الروسية ودورها السياسي الفاعل في انتقاد ممارسات السلطة بهدف الإصلاح السياسي والاجتماعي وكان ذلك في ستينيات القرن التاسع عشر تقريباً. ولكن الصحافة في تلك الفترة لم تستطع تحريك المياه السياسية الراكدة والتي تهيمن عليها القوى الاستبدادية الروسية، فلجأت إلى طبقة المثقفين على اختلاف مشاربهم ورؤاهم الفكرية المختلفة في محاولة منها لتوحيدهم في طبقة واحدة أطلق عليها اسم الأنتلجنسيا (Intelligetsia)، وقد روج الروس لهذه الطبقة للمراهنة على العقل البشري ورجاحته وقدرته على التفكير للخروج من الأزمات التي تهدد المجتمعات. وأصبحت الأنتلجنسيا تضم الأكاديميين والكتاب والمعلمين والفنانين، ويُعرف أفراد الأنتلجنسيا باختصار بأنهم المثقفون. وربما كان الظهور الأول للمصطلح في روسيا مرتبطاً بالنظام السياسي السائد، ولكن فيما بعد تم تداول مصطلح الأنتلجنسيا كمرادف للفكر والإبداع، ومع تطور هذا المفهوم أصبح يشمل فئات مجتمعية أخرى، لذلك يميل الأغلب لاستخدام كلمة المثقفين بدلاً من المفكرين التي قد تنسحب على أولئك الذين يعيشون في عالم الفكر دون ممارسة عملية، أو إلى تلك العناصر الثورية، ومن هنا كان المصطلح في اللغة الألمانية - على سبيل المثال - يحمل دلالات إيجابية كالإبداع والنقد، وفي الفرنسية يعكس بعض القيم، وقد وسّع الكتاب والمثقفون العالميون مفهوم الأنتلجنسيا ليشمل منتجو الثقافة العالمية، فيما ربطها الكثير بالمثل الأخلاقية والانتماء الوطني والانفتاح الأخلاقي. وقد أشار «يانوفسكي» في كتابه «صعود الأنتلجنسيا» الصادر عام 2008م أن هذه الطبقة موظفون مفكرون يسعون لخدمة الدولة وحمايتها من التخلف، وفي كتابه «عن حب الوطن» الصادر عام 1844م حدد الفيلسوف البولندي كارول ليبلت مفهوم الأنتلجنسيا بأنهم أشخاص متعلمون في المجتمع، يتعهدون بقيادة العملية الأخلاقية كعلماء ومهندسين ومدرسين ومحامين وغيرهم. من هنا راهن الكثيرون مراراً على دور المثقف والمفكر في الأزمات والأحداث التي تمر بها المجتمعات على اختلاف تركيباتها السكانية ومدارسها الفكرية، ونحن نمر اليوم بجائحة كورونا المستجد (كوفيد 19) تبرز أدوار المؤسسات والأفراد من النخب المثقفة في نشر ثقافة الوعي المجتمعي، حيث شاهدنا خلال الأشهر الماضية علو كعب المثقفين في التأثير الفكري وقيادة المجتمعات نحو وعي علمي وثقافي يدعو للإعجاب حقيقة، وشاهدنا كيف تحول الفضاء الإلكتروني إلى مسرح ثقافي مفتوح تسَابقَ فيه الجميع لنشر العلم والثقافة بشكل ربما تجاوز في معدلاته أشهر ما قبل كورونا، بل شاهدنا تغير في كثير من الممارسات المجتمعية التي تعكس الوعي المجتمعي للأفراد مثل الالتزام بالحجر الصحي والتباعد الاجتماعي والتقيد بالاحترازات الصحية، ولأول مرة نشاهد في بلادنا حفلات زواج تقام في وضح النهار، ولأول مرة أيضاً نتعايش مع حالات عزاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي فقط، ولأول مرة تقام الدروس التعليمية في التعليم النظامي عبر الفصول الافتراضية Virtual Classroom إضافة إلى المشاريع التدريبية والتطويرية التي لا تنتهي، وتسابق المؤلفون والمكتبات لنشر كتبهم مجاناً إلى مبادرات تطوعية سيذكرها التاريخ بإعجاب. وسيصفق للنخب الثقافية في بلادنا على هذه الأدوار الوطنية الرائعة التي قاموا بها في ظل المسؤولية المشتركة ف(كلنا مسؤول) أضحى شعاراً عملياً بشكل ملحوظ، سنراهن دوماً وأبداً على دور الأنتلجنسيا في صناعة الوعي الفكري والثقافي، وحتى لو ظهر على السطح بعض الفكر السنابي السطحي؛ فتذكروا دائماً أن اللؤلؤ لا يطفو على السطح. ** **