ونحن نجمع أوراقنا، ونقلب في ملفاتنا، نقف في حيرة نتأمل كل شيء، وتساورنا الشكوك في أفكارنا ومشاريعنا، وتأخذنا تأويلاتنا بعد تخيلاتنا، نحو خيال بعيد. ونصطدم بواقع، ما وصلت إليه رموزنا الثقافية، في تهاويها وسقوطها في أخطاء، وكأننا نتألم وقد خاب أملنا بتلك النخب، التي وثقنا بتفكيرها وآمنا بقدرتها على أن تصنع لنا نموذجاً ثقافياً راقياً نعتمد عليه ونعول عليه، في حوارنا وتعاطينا لمنجزات العولمة الثقافية، ولكن يبدو أنها فقدت البوصلة، ونحن بدورنا افتقدنا الهوية والمثال، وقد شغلتنا النخب بأسئلة تركت معلقة، لا نجد لها أجوبة محددة، على رغم أننا اجتهدنا وحاولنا في حوارات وجدالات مستميتة. بحثنا خلالها عن المعنى الحقيقي للثقافة، واقتفينا أثر تلك البصمة الغائبة للمثقف ودور المثقف في مجتمعاتنا! فهل أغرقنا أنفسنا في المفاهيم العميقة لعولمة الثقافة ومتاهاتها؟ أم بالغنا في تعاطينا وتعاملنا مع المد المعلوماتي الجارف؟ لقد وقفنا مع العالم في مواجهة كل التحديات الكبيرة والخطرة، منذ مطلع هذا القرن وأخذنا وقتاً وجهداً في استعدادنا وتأقلمنا مع تطورات العالم الجديد، وأخذ منا ذلك الكثير من التضحيات! في وقت كنا مطالبين فيه كمثقفين وإعلاميين ومفكرين للتعامل مع النظام العالمي الجديد والعولمة الثقافية الجامحة، دون تردد أو تشكيك، فاندفعنا ونحن متأثرون بكل الإغراءات، ونسينا أنه كان يفترض أن نكون حذرين ومنتقين بشكل جيد، ما يتناسب مع قناعاتنا ومعتقداتنا وخصوصياتنا. فهل كنا حقاً غير حياديين في اختياراتنا؟ ولماذا لم نفكر ملياً في انتماءاتنا؟ أم أن انفتاحنا على ثقافة الآخر لم نقدر له بشكل دقيق وكيفية مستشفة من الواقع؟ ومراعاة ظروف وواقع مجتمعنا وخصوصية البيئة الاجتماعية لشعوبنا؟ ونحن نعلم أن المثقف قبل أن يكون مثقفاً، بل ومن خلال هويته الثقافية، له دوره الاجتماعي والإنساني. في بحث يعكس رؤية جديدة ومختلفة، يرى أحد نقاد الفلسفة، أن التعريف الاجتماعيالسوسيولوجي للثقافة، يعد أكثر شمولية من معنى تلك الكلمة المستهلكة والتي تستعمل بصورة متلازمة مع الكثير من المصطلحات والمفردات اللفظية، مثال ذلك: الغزو الثقافي، المشهد الثقافي، الخصوصية الثقافية، الخلفية الثقافية وغيرها، لذلك نجد أن الثقافة هي المعيار الحقيقي لكفاءة الأفراد في تخصصاتهم العلمية ومؤهلاتهم الإبداعية أو تحصيلهم المعرفي. فالمثقف كما يتفق الكثير من الفلاسفة في نظرياتهم، هو الشخص الذي استطاع أن يصل إلى درجة التمكن والاحتراف في مجالات المعرفة المختلفة والإبداع، الفنون والموسيقى والأدب، وهذا لا يكفي، إذ لابد أن نجد في ذلك الإنسان الذي ألبسناه ثوب الثقافة ما يميزه من صفات تعد من خصوصيات تركيبته الاجتماعية السلوكية والأخلاقية المثلى، أما الأشخاص الذين ليسوا مؤهلين بالقدر نفسه، بهذه الكيفية، غالباً ما يعدون، طبقاً لهذا المفهوم غير مثقفين. وعلى رغم تحفظنا واختلافنا على بعض النقاط في هذه الرؤية، وهي جديرة بالبحث والتمحيص، وما يمكن أن نتفق عليه من زاوية أخرى، أنه ليس في مقدورنا أن نضع معايير العلم والثقافة في مكيال واحد، مع إيماننا بأهمية توصيف عمليتي التعليم والتثقيف، وهو ما دعا البعض لكي يصنف المبدعين والصحافيين ليكونوا في مستوى ثقافي واحد، لأنهم من وجهة نظر خاصة، فئة آثرت أن تقتات ذهنياً من كتاباتها وإبداعاتها، بجهد عصامي ذاتي التلقي. بمعنى أن المثقف الأنموذج هو الإنسان الذي وصلت به ثقافته... وثقافته وحدها إلى أن يتبنى المعايير الأخلاقية السامية وما يستعصى على طاقة الفرد العادي، شريطة أن تكون له رؤية فكرية غير عادية وأن تكون مواقفه الأخلاقية والفكرية نبراساً يسير وفق منهجه السليم كل طالب علم وثقافة، فالمثقف، من وجهة النظر هذه، فرد عادي ذو ثقافة غير عادية، وهي تتطابق بشكل أو بآخر مع وجهة النظر الفلسفية التي أشرنا إليها والتي تشير إلى أن المفهوم الشامل للثقافة يتم تعريفه اجتماعياً. وإذا أردنا أن نحدد مقياس الوعي الذي يتمتع به كل مجتمع، نجد أنه يتحدد من خلال مستوى ذلك الوعي وماهية متكيفاته على حد تعبير الفلاسفة، باعتبار أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة، والفئة المعنية بالثقافة والتي يطلق عليها النخبة يعدون الوعاء لثقافة المجتمع. الثقافة بحسب رأي أحد الفلاسفة الاجتماعيين، تقوم بتنظيم الحاجات الأولية لأفراد المجتمع وتشكل الوعي العام والأساس له، وما أسماه الفيلسوف الباحث احتياجات، إنما هو معطيات لحاجات المجتمع في إنتاج وإبداع روافد ثقافته، فالمجتمع بحاجة للأفكار والرؤى والآراء والخطط، مع الأخذ بمؤثرات العادات والتقاليد وأنماط السلوك، اللغة مصطلحاتها ومفرداتها - التي يتحدث ويكتب بها ويفهم الناس-، أنواع الطعام والملابس والطرز المعمارية والأنساق الاجتماعية. والثقافة تعمل على تنظيم المعطيات وصياغة نمطها الهرموني المتناغم والمتناسق. ويأتي الاختلاف الثقافي تبعاً للاختلافات الجغرافية والبيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إلا أننا لابد أن ندرك أن هذا التوحد أو التميز الذي تفرضه الظروف والبيئات على ثقافة ووعي كل مجتمع، لا يعني بالضرورة تناسخ ثقافة الأفراد أو تشابه وعي الأفراد بهيمنة فكرة ما أو رأي واحد، وإلا لما كان هناك حوار تتلاقى فيه الأفكار وتتناهى الرؤى في سيمفونية هرمونية، تشكل الوعي أو الوعاء الثقافي الذي يكون ثقافة المجتمع. ومن هنا كان علينا أن ندرك استحالة شيوع الثقافة الواحدة في العالم. من خلال هذا المفهوم ووفقاً لبعده المعرفي للثقافة، فإن المثقفين هم الذين يحملون في أعماقهم كل متناقضات مجتمعهم، سلبياته ضعفه، عيوبه، ونبض توهجاته وانطفاءاته. وهم المسؤولون عن التوازن المفترض في الأخذ بنمط العولمة الثقافية، والانفتاح غير المقنن مع الآخر، وهذا ما يقودنا لتوقع حدوث أزمة ثقافية عالمية شبيهة بالأزمة الاقتصادية الرأسمالية الراهنة. تحضرني الآن مقولة لجان جاك روسو مفادها، أنه"إذا كانت الحضارة هي المظهر المادي للثقافة، لأنها تترجم الثقافة إلى ألوان مختلفة من الإبداع في الفكر الإنساني، فإن هذه الآداب والفنون تدل على أن الثقافة تبقى في كل أمة رمزاً لتراث يخصها على مدى تاريخها، ويخلد هذا التاريخ، صانعوها ومحركو ديناميكيتها، الذين هم مثقفوها الحقيقيون. وهم أيضاً القادرون على إسقاطها وطمس معالمها إن أرادوا.