هل ينقسم المشهد الثقافي المغاربي إلى خندقين متواجهين: الأوّل "حداثي" ينتمي إلى الغرب، والثاني "سلفي" متشبّث بالتراث ومدافع عن الهويّة؟ في هذه الحلقة الثانية والأخيرة من ندوة "الوسط" حول أدب المغرب العربي يتعرّض المشاركون لهذه الفكرة الجاهزة، ويحاولون تقديم بعض الاضاءات والاضافات. من عدم تبلور الوعي المدني إلى غياب الحريّات، مروراً بمفهوم "الحداثة المعطوبة"، وبالكتابة المنفتحة على الحياة، يتطرّق النقاش إلى مسائل وقضايا من صلب النقاش الراهن حول اشكالات الثقافة العربيّة. ساد الاعتقاد طويلاً بأن الأدب المغاربي بالفرنسية أقرب إلى الحداثة، والأدب المكتوب بالعربية يغلب عليه الطابع السلفي. كيف تتجلّى ملامح الحداثة في أدب المغرب العربي اليوم؟ - محمد ديب: هذه بعض الأفكار الجاهزة غير الموضوعية. فالحداثة برأيي تكمن في حساسية معينة، تتطلب تفتحاً فكرياً وقدرة على استيعاب الراهن بكل مكوناته. اللغة لا دخل لها في هذه المسألة التي تتحدد فقط بحساسية الكاتب. والحداثة لا تعني بالضرورة الطليعية أو التقدم التكنولوجي والعلمي. إنها حسّ جمالي ورؤية جديدة للعالم والأشياء. لذلك فكلّ الثقافات واللغات تساهم في الحداثة. ولا أعتقد أن هناك تناقضاً بين المد الأصولي الذي تشهده مجتمعات المغرب العربي وبين الحداثة. فهذا المد الأصولي تفجير لمكبوتات دينية وحضارية وثقافية. وبقدر ما اتسمت عملية الكبت هذه بالعنف، جاء تفجيرها عنيفاً. وعلى رغم أن هذا المد الأصولي يتسم بمضمون سلفي، فان تصعيده بهذا الشكل ينتمي إلى عصرنا، ولا يتنافى مع الحداثة! - رشيد بوجدرة: أنا أيضاً لا أعتقد أن الحداثة تحددها اللغة. ليست الكتابة بالفرنسية ما يجعلني أكثر حداثة، بل ترك الكتابات الفلكلورية والأشكال الأدبية والحكائية القديمة، للانخراط بشكل كامل في العصر. فمجتمعاتنا المغاربية تعيش حياة حديثة من الناحية الاستهلاكيّّة والتكنولوجيّّة. وحتى بعض أوجه التخلف، من افرازات الحداثة. فنحن نركب الطائرات والسيارات لكننا لا ننتجها، والوعي المدني لم يتبلور لدينا بعد بالقدر الكافي. والأدب المغاربي مُطالب بأن يعكس هذا الواقع بايجابياته وسلبياته. الحداثة مفروضة علينا إذاً، وليست شيئاً غريباً أو خارقاً للعادة. والذين يطرحونها كمعضلة أو كإشكالية، وأحياناً كمفارقة، هم بعض النقّاد والأدباء الذين يحسون بعدم القدرة على مسايرة واستيعاب الجديد والعميق والمعقد في الأشكال والمضامين. - محمد شكري: قد أفاجئ الزملاء بكلامي، فاعتبار أدبنا المكتوب بالفرنسية أقرب إلى الحداثة فيه جانب من الصحة. الأديب المغاربي حين يكتب باللغة الفرنسية يكون أكثر تحرراً، لأن كتاباته تنشر في فرنسا، حيث يحظى بحيّز أوفر من حرية التعبير. أما كاتب العربية، فهناك دوماً سيف ما، سياسي أو أخلاقي، مسلط على رقبته. وبالطبع حين تكتب تحت الضغط، تعيش نوعاً من التمزق الذي ينتهي بك لا محالة إلى ممارسة الرقابة الذاتية على كتاباتك. ولا أظنّ أن أحداً منّا يستطيع أن يدعي عكس هذا. وأنا شخصياً، على رغم كل ما يُقال عن جرأة كتاباتي، لا أخفي أني أمارس بدوري هذه الرقابة الذاتية. إذ يحاصرني شعور بأنّني لا أستطيع أن اقول كل شيء بحرية مطلقة. مفهوم الحداثة يختلف بالطبع من كاتب إلى آخر، حسب رؤيته للأشياء. نحن مرتبطون بشكل أو بآخر بماضينا، ولا ينبغي أن يشدّنا ذلك إلى الخلف. الحداثة لا تعني انسلاخاً جذرياً عن التراث. أنا أقرأ التوحيدي والجاحظ وابن المقفع بمتعة كبيرة، وهذا يكسب لغتي قدراً من الغنى والمتانة. لكن الالتفات إلى التراث لا يعني تقديس الماضي والانبهار به، كما يفعل السلفيون. إنّه التفات عقلاني وانتقائي. - عبد اللطيف اللّعبي: القول بأن ما هو مكتوب بالعربية أقل حداثة مما هو مكتوب بالفرنسية، من الأحكام الجائرة السائدة في الأوساط الأدبية المغاربية. الحاجز بين أدبنا المكتوب بالفرنسية وذاك المكتوب بالعربية وهمي ومصطنع. هناك تداخل وتفاعل بين الكتابات وبين الكُتّاب، خصوصاً في المغرب وتونس حيث فتح الحوار بين المثقفين باللغتين في وقت مبكّر. وشهد هذا الحوار مراحل من الصراع وتعارض الأفكار، لكنه أدّى بالتدريج إلى تفاعل طبيعي بين التجربتين. واليوم نجد أعمالاً مرجعيّة بالعربية وبالفرنسية، كما أننا لا نستطيع أن نميّز هذا الأدب عن ذاك من حيث البنية والمشاغل والتوجّهات. أما في الجزائر فلم يتحقق هذا التفاعل، ونشأت بالعكس قطيعة بين المثقفين باللغة الفرنسية والمثقفين بالعربية. ولعلّ ذلك بين الأسباب التي أدت إلى الواقع المأسوي الذي تعيشه الجزائر حالياً. أما الحداثة كإشكالية أدبية، فالذين يقرأون ما أكتب يعرفون انني منذ فترة طويلة طرحت مدى زيف هذا المصطلح. المعاصرة برأيي ليست مقياساً لتقويم الأدب. القيمة الفنيّة هي المقياس الوحيد. - الحبيب السالمي: الحداثة "دخلت" إلى بلدان المغرب، عبر فنون جديدة لم تكن تعرفها في ثقافتها الموغلة في القدم، وأيضاً عبر مجموعة من الأفكار الاصلاحية التي تضمّنتها خطابات حركات التحرر. وفي أواخر الستينات بدأ الأدب المغاربي يلتحق بتلك الفنون، ويعلن عن حداثته. والأدب المكتوب بالفرنسية، بين نهاية الستينات ومنتصف السبعينات، كان أكثر تبنياً لرؤية الحداثة، وأكثر إثارة لأسئلتها. لكن ذلك لا يعني أن كل ما كُتب ويُكتَب بالفرنسية حداثي، وكل ما كُتب أو يُكتب بالعربية سلفي. وهذه الفكرة يروّج لها بعض الفرنكوفونيين والمتحمسين لهم من الفرنسيين. وحتى إذا تركنا جانباً حاضر الأدب المغاربي المكتوب بالعربية، وبعضه لا يقل قيمة عمّا يكتبه بالفرنسية أدباء كالراحل رشيد ميموني مثلاً، وعدنا إلى ما كان يكتب في الثلاثينات والأربعينات، لوجدنا أن نصوص علي الدوعاجي، مثلاً، تفاجئ بجرأتها في مقاربة الواقع وفي تناول مسائل يتجنبها الكثير من كتابنا اليوم. وهناك أيضاً كتابات الشابي الذي تعرض، بسبب آرائه الجريئة، إلى حملات عنيفة من قبل شيوخ "الزيتونة" حيث كان يدرس. فهل نعتبر اليوم نصوص الدوعاجي وقصائد الشابي سلفية؟ لنبتعد عن هذا النوع من المقاربات. فازدواجية الللغة ظاهرة مهمة، ويستحسن برأيي أن نحاول الاستفادة منها، وأن نصغي إلى بعضنا البعض. وربما يفاجئ كلامي القارئ المتعوّد على هستيريا "الغزو الثقافي" التي ينتفع بها مادياً "حراس الهوية". فالخطاب المهووس بالهوية يتماهى حالياً مع خطاب أصولي سلفي يمثّل خطراً حقيقياً لا على الثقافة العربية الراهنة فقط، وإنما على اللحظات المضيئة في حضارتنا. - إدريس الخوري: يختبئ البعض وراء الفرنسية مدّعياً تمثيل الحداثة، وهذا وهم كبير. والحداثة غالباً ما تُطرح عندنا كفكرة جاهزة ومحنطة، وتناقش بشكل تبسيطي وخاطئ. مع العلم أن اخواننا المشارقة هم الذين يصدعوننا بوهم الحداثة! إن كلّ كتابة صادقة تعكس باخلاص تجربة الجيل الذي تنتمي إليه، أو المرحلة التاريخية التي أفرزتها، هي كتابة حداثية. أما الحداثة كهاجس أو غاية أدبية، فهي مشكلة مشرقية، وإن كنّا نشهد ظهور جيل من الشعراء المغاربيين الذين يجرون بدورهم وراء وهم الحداثة. كيف يمكن لكاتب عربي أن يدّعي الحداثة اليوم، من دون أن يحسّ بأنه يُقحم نفسه في مأزق واضح؟ كيف تكون حداثياً وأنت تنتمي إلى مجتمع تقليدي تسيطر عليه الغيبيات؟ المثقف الذي يدعي الحداثة كثيراً ما تجده متخلفاً في سلوكه ووعيه تفكيره. الحداثة في العمق تتبلور من خلال المعيش اليومي لشعب أو أمة ما، من خلال دور المجتمع المدني فيها، ومن خلال التصرف الحضاري لكل فرد من أفرادها. أما الحداثة التي تدور حولها أدبيّاتنا، فهي معطوبة، أو "حداثة مع وقف التنفيذ"، وهنا تكمن ازدواجية المثقف العربي. والمدّ الأصولي الذي نشهده لا يزيد هذا الوضع إلا تردياً. أين الانتلجنسيا المغاربية اليوم، وما المطلوب منها؟ هل يمكن للحركة الثقافية والأدبية أن تتمخّض عن مشروع مجتمع؟ - محمد ديب: الكُتّاب جزء من الأنتلجنسيا، ويمكنهم بالطبع أن يساهموا في مختلف نشاطات المجتمع المدني. لكن هذه المهمة اضافية وخارجة عن مهمتهم الاصلية. فالمبدعون ميزتهم الأساسية أنهم يشتغلون بناء عن الحدس. ليس المطلوب منهم التنظير أو العمل السياسي أو الأكاديمي، بل انجاز أعمال قائمة على التخييل، تتميّز بالتعبير على الواقع بشكل أفضل وأكثر عمقاً من التقارير الإدارية أو التحقيقات الصحافية. ولا أعتقد أن بلورة مشروع المجتمع من مهمّات الأدب. باستطاعة الكُتّاب، وربّما من واجبهم، الاسهام في تطوير المجتمع، لكن ذلك يتم خارج الابداع. لا يعني ذلك أن الأعمال الأدبية يجب ان تكون محايدة أو منقطعة عن المجتمع. فهي تلعب دوراً مهماً يتمثل في النقد. الكاتب لا يقدم الحلول بقدر ما يطرح الأسئلة ويثير النقاش ويحرّض على التفكير. أما بلورة الحلول البديلة، فتقع على عاتق المجتمع المدني بكل فئاته. - رشيد بوجدرة: لا أتفق مع محمد ديب. فالأنتلجنسيا المغاربية، من كُتّاب ومثقفين وكوادر وباحثين في مختلف المجالات والاختصاصات، أثبتت وجودها ومكانتها بقوة في المجتمع. وهذه الأنتلجنسيا استهدفت في الجزائر مثلاً بشراسة من قبل الجماعات المتطرفة. لماذا يتحامل المتطرفون على الكتاب والمثقفين والصحافيين والباحثين ورموز النخبة النسوية؟ لأن هؤلاء يمثّّلون النور والعقلانية والحداثة. يعرف الارهابيّون أن الانتلجنسيا سدّ بوجه الردّة الظلاميّة، فيتعرّضون لأفرادها بأبشع الأشكال، معبّرين عن حجم الحقد، وعن الخوف من تأثيرها في المجتمع. إن مقاومة الأصولية والتطرف تتمثل أساساً في بلورة مشروع مجتمع قائم على الحرية والعَصْرَنة والحداثة. وهذا ليس دوراً خارجاً عن مهمة الأدب، بل هو في صميم انشغالات غالبيّة أدباء المغرب العربي. مهمة بلورة هذا المشروع تقع على عاتق المجتمع المدني بأكمله، هذا صحيح. وكل روافد النخبة الثقافية والعلمية عليها أن تساهم في هذه المهمة. أما إسهام الأدباء فيكون من خلال القيم والأفكار الحداثية والعصرية التي يعبّرون عنها في أعمالهم. - محمد شكري: أعتقد أن دور الأدب لا يجب أن يكون ترفيهياً، خصوصاً في دولنا التي نالت استقلالها حديثاً. فظروفنا تفرض على الكاتب أن يكون في صلب الاهتمامات والتحديات التي تواجه مجتمعه وبلاده. مطلوب من الكاتب أن يساهم في صياغة وبلورة مشروع مجتمع قائم على الحداثة والعصرنة. لكن ذلك لا يعني أن يكون الأديب خاضعاً لحزب أو تنظيم سياسي. أنا أعتبر نفسي كاتباً ملتزماً، وأسخر أدبي لخدمة الطبقة المهمشة التي جئت منها وما أزال أعيش وسطها. أقوم في كتاباتي بشجب الظلم الذي تعاني منه تلك الطبقة، وأدين كلّ الطفيليّين الذين يمصّون كالعلق دم الشعب البسيط. وإذا نظرنا إلى الأدب المغاربي اليوم، نجد أن بعض الأدباء يلتزمون بدورهم في صياغة مشروع مجتمعي حديث يوفر الكرامة والحرية للجميع. أما البعض الآخر فتخلّى عن أفكاره، أو راح يمالق طمعاً بالامتيازات والمناصب. - عبد اللطيف اللّعبي: الأنتلجنسيا المغاربية أثبتت وجودها بشكل واضح، وعبّرت عن حاجات الناس وتطلّعاتهم إلى مجتمع أفضل. ومعظم كُتّاب ومثقفي المغرب العربي يشاركون الجماعة مشاغلها، ويشتركون في نضالاتها. لكن هؤلاء يواجهون عوائق سياسية وثقافية واقتصادية كثيراً ما تشلّ طاقاتهم وتحدّ من قدرتهم على أداء وظيفتهم الطبيعية. فأي مثقف ينبغي عليه أن يدافع في كتاباته عن قيم التعددية والتسامح والديموقراطية. لكننا لا يمكن أن نستخلص مشروع مجتمع من خلال الأدب المغاربي، أو أي أدب. دعنا لا نُبالغ في مطالبة الأدب بأكثر من طاقته ودوره. - الحبيب السالمي: ماذا يستطيع المثقف أن يفعل اليوم في مجتمع كل ما فيه يعمل على تهميشه، وأحياناً لا يعترف به اطلاقاً؟ في مجتمعات "أمية" لم تستوعب بعد مقولات الحداثة، ليس للمثقف أي قدرة على التأثير. حسب المثقفين ألا يسقطوا في اليأس، وأن يظلوا مصغين إلى نبض الواقع، وأن يكتبوا ليقولوا تعلقهم بقيم دونها لا يكون الانسان انساناً. - إدريس الخوري: لدينا أنتلجنسيا تسعى إلى بلورة الميكانيزمات والأطر السياسية والاقتصادية والثقافية التي تسمح بتحقيق الحرية والعدالة والديموقراطية. لكن لا وجود لمشروع مجتمعي في المغرب العربي. ومسؤولية هذا الأمر لا تقع على الكُتّاب والادباء. فمشروع المجتمع تحققه وتصوغه القوى السياسية والاجتماعية الحية. وما يُطرح عندنا حتى الآن لا يعدو كونه أفكاراً. أما تحقيقه فمرتبط بمناخ الحرية، في حين أن القوى السياسية المهيمنة تعرقل حركية المجتمع المدني .