قالها المفكر السعودي «شايع الوقيان»، إنما يقع اللوم على عاتق المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. وأشار بيده ل«هؤلاء» الذين يمارسون تسطيحاً متواصلاً لعقلية المتابعين، وتزييفاً لوعيهم الفردي والجمعي في وقت يظنون فيه أنهم يحسنون صنعاً! كما أن «المشكلة» - نعم مشكلة، هكذا قالها هذا «الشايع» كضوء - التي تكمن بعد ذلك هي كيفية تناول المثقف هذا الواقع؛ إذ هل عليه أن يصوره بموضوعية، وينتقده بأمانة؟ أم عليه أن يسهم في تزييف الواقع والوعي الشعبي به؟ هنا - في الحالة الأخيرة - سنلاحظ ظهور ما يسمى «المثقف الأيديولوجي» الذي يتخذ من المعرفة والمنهجية وسيلة لتحقيق غايات أيديولوجية وحزبية.. أعتقد - قالها المحرر - أن الحروف التي ذابت في وجدان ضيفنا صهلت من الأعماق.. أشعلت أطراف يده، وتسلقت صدره بمشقة؛ ليس لكون صدره عاريًا، أو منغلقة عليه، أو أن مرارة كِفْلها أحرقت لسانه، أو لأن صداها لم يملأ الأمداء.. كل هذا بعُرف مفكرنا «الوقيان» غير ذي قيمة.. ولم يلقِ له بالًا مقابل ما يرقبه ويفجعه من خسائر فادحة، تودي بقيمة آخرين.. أما فيما تطرق له الناقد طارق القرني فإن الواقع العربي اليوم بات صعبًا على التحليل المنطقي بسبب الفوضى العارمة التي اجتاحت بلدانه؛ ما جعل النخبة المثقفة في دوامة، لم تستطع الخروج منها بخطاب يرضي المُهمّشين.. في حين فشل مشروع النهضة العربية، ولم يحقق أهدافه التي قام من أجلها: الوحدة العربية، والوقوف ضد التدخل الخارجي، وتحرير المرأة، ونشر التعليم، ومحاربة الفساد.. فنهض في المقابل (المشروع الإيراني)، وحُلم (خليفة المسلمين التركي) تولّى تِلاوتهُ ورَفْع قدَاستهُ، مع المسلسلات المدبلجة والبرامج السياحية، «جماعات طائفية وأيديولوجية»، اتخذت الإسلام شعارًا لاستمالة العاطفة العربية المنهكة من واقعها المرير.. هشاشة الفكر العربي المسيّرة بعالم افتراضي، لا يُعلم - في الغالب - مَن يقوده! لولا التدخل العسكري السعودي. «وليس بعدما تَطرّق إليه هذا الطّارق القرني قول يُطرق».. قال المحرر. فيا واعي الألباب ومكمل العقول وحافظها، ارعَ من جاء حرفه جامعًا حرقة وأسى. فما بين مرارة كلامه المرعب رغبة كرغبة نذير قوي العزائم والشكيمة، يسير بلا كلل ولا ملل، يستنهض القوم.. يود قرع أجراس كل أبواب العواصم العربية، من قرية ببطن وادٍ لمدينة ساحلية، ومن بلدٍ لبلدٍ بصوتٍ عالٍ: النّهوض النّهوض! يا عرب النّهوض.. غير آبهٍ بمُحْبَطين أضناهم يأس المرحلة، ولا بمهبّطٍ ظن أن جميع أبواب الوعي العربي مؤصدة! بعد محاولة وحيدة قام بها فاشلة، انكفأ بعدها يردد بيأس: مؤصدة، عارمة! من حينها وهو عالق بفشله أمام الباب، أقنع نفسه أنه فقد كل شيء، منزلته ومنزله، رائحة رغيف أمه الساخن، زوجته، حتى وجه طفله الصغير ضيعه. أقنعه الباب الموصد الذي طرقه يومًا ولم يُفتح أنه فَقَد كل عروبته. لم يعلق بذاكرته سوى قصيدة واحدة لراحل العراق الكبير عبدالرزاق عبدالواحد: «لا تطرق الباب تدري أنهم رحلوا..». وكشفت سُطور عالم الاجتماع البروفيسور «خالد الرديعان» الإيعاز «للصفوة المؤثرة» أن بدخول هذه النخبة الجديدة نزح المثقف التقليدي «بالملايين» وبالأرقام المثبتة مستغلة المَدّ الأُفقِي، غير أنها مع هذا الدخول لا تستطيع تقديم «ثقافة عليا»، تعمق وعي الجماهير بالأخطار المحدقة.. وإذ ليس بعد تزجية البروفيسور النفيسة من شجن - لصاحبكم المحرر- سوى التّوصِيف.. فأليكم ما وصَف: لعل أن هذا المُتشَكِّل مِخْيَال سحابة. تُجمّعُ عبَثًا فَوضَويًّا غير خَلَّاق. تَشَكلَ واقْتَرب ثم أرعد وأزبد، وأَجْفَأ.. حتى أوشك استمرار تَهطُّله الذي ما رفعنا له أيادينا إلى السماء باهِلِين: سَحًّا غَدقًا مُجلجِلًا، عامًّا نافعًا غير ضار. يُبشّر بقُرْب جَنْي سُنْبله من مَحَاصِيل منتوجه المتكدس فوق الأرض الرمادية؛ إذ كانت مُحكمة بغِلٍ بسْطة يدها أرتاج بعض العواصم العربية.. حتى إذا مابانت معالم خرائط القاطنين الجديدة تَظْهر، وأوْشكتْ أن تَتغير حدُود حقولهم.. تَنبّه السُّكان الأصليُّون أنّهم مُحتلون بالوكالة؛ فلا هُم من المواطنين المخلصين، ولا مقيمون طيبون؛ إنما ظهروا خِلسة.. وتَذكّروا أنّه قد قِيلَ لهُم أوّل ما شاهدوهم إنّ (صفوة مؤثرة) استورَدُوهم على شكل فَزّاعات! وإنّما جَلبُوهم لهم كي يحموا الحقول من أسراب الغربان والطيور والنسور المهاجرة التي تمرُّ فوق البساتين. كانوا يعتقدون فقط أنهم فزّاعات في مساحة لا تتعدى خريطة الحقل. يُزمّرُون ويُطبّلون، ويُطبّلون يُزمّرُون.. ويقومون بحركات بهلوانية، كانت تطرب مالك الحقل وزوجته السعيدة التي توزع بحبور بسماتها على أطفالها المرحين. وما لبثت تلك الفزّاعَات أن تكاثرت وتناسلت حتى أخذ بعضهم يجري في قناة غير آبه أن الماء آسن، وبعضهم أصبح مفسرًا للأحلام، فيما آخرون انسلوا من الأسمال التي ارتدوها حين كانوا فزَاعات، وأصبحوا على الموضة في أوساط الشباب مغنين ومفسرين للأحلام. أما من كان عنده علم مِن قدرة الذئاب على اختطاف خراف الحقل، ومتى يفكر الثعلب بدخول قِن الدجاج، فهذا صعد المنابر وأمّ المسلمين، وما زهده في ارتداء مشلحه سوى أنه مؤمن، اختصه الله بنعمة ترك أسمال الفزّاعة، وقريبًا سيتوج الخليفة عهد الله إلى المسلمين! مُنبثُّونَ تُحركهم العُملة الصّعبة، ينطلقون فجرًا لأسواق النخاسة، عارضِين أنفسهم مُعلّبِينَ، بطرق رخيصة ملونة، تُغرِي الفقراء على تناولهم. وعند المساء تشتريهم في السوق السوداء «زمرة مجهولة» فيتمُّ إعادة تعبئتهم وتغليفهم وتصديرهم من جديد وبسعر أغلى لبلد عربي آخر «فارغين»! كان أعلاه من حقل وصف (صاحبكم المحرر) في تعاملات بعض نخبة من «صفوة فاسدة» خراج عالمنا الهلامي ونتاجاته المعجونة بالأسى والتسطيح بعد أن اجتاحت حقلنا العربي! أما الدكتورة «إيمان الحازمي» فقد تجلى فكرها الناقد ليكشف النقاب عن الصور المثلى التي يجب أن يتحلى بها الأديب الخلاق المرتهن بالخيال في معرض إجابتها عن سؤال (الجزيرة الثقافية) المتمحور حول الكتب الفكرية والإبداعية التي صاحبت هذه المرحلة، لا تحسبوا تكرار جملتها سهوًا أو خطأ مطبعيًّا! تأملوا جيدًا وكفى: إن المجتمعات عند الأزمة أو ما بعدها إنما تحتاج إلى من يحلق بها نحو البناء للمستقبل وتجاوز الأزمة. إن المجتمعات عند الأزمة أو ما بعدها إنما تحتاج إلى من يحلق بها نحو البناء للمستقبل، وتجاوز الأزمة. وهذا موقف الأدب الخلاق. عند الأزمات لا يحتاج المجتمع إلى من يقوض الأمل، وإلى من ينظر إلى الأزمة بواقعية متشائمة، تقتل روح التطلع.. ذلك المثقف عليه أن يقف موقفًا عاريًا.. لن يقول المحرر شيئًا!! طارق القرني: أمر معاصر يحول دون حل جذري للهُوة التي آلت إليها الحالة العربية قد يكون اختيارنا هذا العنوان مدخلًا مناسبًا، نقدم فيه التصورات والآراء التي أدلى بها ضيفنا. الناقد والباحث «طارق القرني» في هذا التحقيق، الذي بدوره اختار أن ينطلق حديثه من بدايات طرائق تطور المجتمعات، ومواجهتها للإشكاليات، وردم الهُوّات التي أوقع تقصير أُمَم سابقة مغبتها. موضّحًا أن الطريقة التي تتطور فيها المجتمعات في فترات زمنية متباعدة تُكمل كل مرحلة فيها سابقتها، وتسد ثغراتها، ويقوم كل زمن على محاولة وضع حلول استراتيجية عميقة؛ لتستطيع مواجهة الإشكالات الناتجة من جهد السابقين القاصر. مبينًا أن الأمة العربية ليست خلوًا من هذه القاعدة التاريخية التي جرت سننها عبر الأزمنة على كل حضارات البشر وثقافاتها. واستدرك: لكن أمرًا معاصرًا يحول دون وضع حل جذري لعمق الهُوة التي آلت إليها الحالة العربية المعاصرة. تجربة فريدة وعواقب وخيمة وفي التفاصيل، وتوضيحًا للاستدراك أعلاه، رصدًا للنتائج الكارثية والعواقبه الوخيمة التي حلت في بعض البلدان، قال «القرني»: تمرُّ البلدان العربية بتجربة قد تكون فريدة من نوعها تاريخيًّا؛ إذ تغير الواقع من كونه طبقيًّا مكونًا من (نخبة متعلمة مثقفة تقود المشهد) بأقلامها وآرائها عن طريق ما تنتجه من كتب ومقالات وأبحاث إلى (مشهد تقوده الجماهير الغفيرة المحتشدة)، المسيّرة بعالم افتراضي، لا يُعلم - في الغالب - مَن يقوده! هذه الحالة الفريدة والصعبة في تفسيرها وتحليل أسبابها جعلت النخبة المتعلمة والمثقفة في دوامة لم تستطع الخروج منها بخطاب يرضي المُهمّشين من عامة الشعوب، وأصبح وفق هذا المنحى الجديد ظهورًا لنخبة جديدة، لم تكن معروفة في السابق، وصار التفكير في قلب كل الموروثات السياسية والثقافية والدينية أمرًا مطروحًا في الطريق، ورغبة تطالب بها جموع الناس. هذا المشهد عقّد المسألة على النخبة القديمة؛ فأجبر كثيرًا منهم على مسايرة الواقع والقناعة بضرورة اتباع الشارع، والحديث بلغته، والمطالبة بما ينادي به؛ فتغير الخطاب المبني سابقًا على دراسة محايدة متأنية إلى خطاب تداولي نفعي، يهدف إلى تمكين الواقع وتغليبه على النظرية. وكل هذا أثر في فكرة النخبوية، وخلق واقعًا جديدًا، لم يكن معهودًا في السابق. وفضّل مجموعة من النخبة القديمة حالة النأي عن الجديد الطارئ، والبقاء في خانة المعهود الذهني المتوارث عن مفهوم النخبة وآلية عملها. وهذا الفارق أو الانقسام بين النخبة زاد المشهد العربي عسرًا وتعقيدًا. فكر هش وفوضى عارمة حطمت الأحلام العربية وأكد «القرني» أن الواقع العربي بات صعبًا على التحليل المنطقي بسبب الفوضى العارمة التي تجتاح بلدانه أو جلها؛ وما ذاك إلا بسبب البنية الهشة التي قام عليها الفكر العربي المؤمن بالمؤامرة، وتقسيم المجتمع إلى طبقات، والعنصرية، والتجهيل، والتفكك الأسري، وضعف التربية للجيل الناشئ، وانفتاح الإعلام للمتطرفين اليمينيين واليساريين، والفراغ السياسي في كثير من الدول، والرغبة في تقويض حكم دول لأخرى، وحكم الميليشيات الإرهابية لبعض الدول، وتحكيم دول إقليمية لسيادة دول عربية، وتحطم الأحلام العربية التي نشأ جيل بأكمله على إمكانية تحقيقها، والوعود المثالية التي لم تحققها كثير من الأنظمة الحاكمة، وغير ذلك كثير من الأسباب التي أضعفت العقل والوجدان العربي، وجعلته قابلا للاختراق من أي فئة أو حزب أو دولة خارجية. المُصْلح انتقل دوره لرئيس تنظيم معادٍ وأضاف: بعد كل ذلك فإن مطالبة النخبة بعدم القيام بواجبها أمر بعيد عن الصحة، وغير دقيق، ومطالبتها بإصلاح الواقع - وهو كما ذكرنا - أمر صعب، لا قِبل لهم به. والواقع أن البلدان العربية تحتاج إلى رؤية شاملة لعقد قادم، ويتم العمل عليه بكل أمانة ودقة. يُشكِل على الفكر العربي المطالبة بالدولة المثلى الخالية من أي نقص، وعند التأمل والنظر الدقيق فيما صاغه المفكر العربي الشرقي والغربي نجده يطالب بما تمليه عليه أيديولوجيته الفكرية، فيطالب بما يراه حقًّا، وهذا حقه، لكنه يصبح إقصائيًّا مع مخالفيه الفكريين، ومستبدًّا برأيه تجاههم. والطريف أن يطالب النخبوي السياسيَّ بعد ذلك بتحقيق الديمقراطية والعدل والحرية! هذا التنافر المعرفي جعل دور النخبة يتضاءل، ولا يعدو كونه سببًا لتشكل جماهيري؛ فانتقل عمل المفكر من كونه جامعًا للمفترقين إلى رئيس حزب وتنظيم، يستبد برأيه، ويعادي من يخالفه. وهذا الفعل ربَّى الأجيال على ضرورة الانخراط في تيار فكري، يحقق لها الكمال والعزة، وسد النقص الداخلي الذي تشعر به، ومحاربة الآخر المختلف، بل تشويه صورته، والكذب عليه، وتلفيق التهم للتنفير منه. وكل ذلك غيّب الوطن ومفهومه في العقل العربي؛ فلم يعد تخريب الممتلكات العامة، وتعطيل العمل، ونهب المصالح الوطنية، والفساد المادي والأخلاقي والتربوي، وغيرها من أفعال الواقع العربي.. لم تعد هذه تهم الفاعلين لهذه الفوضى، المهم عندهم هو تحقيق النصر على التيار العدو، وسحقه إن أمكن! أخمد التدخُّل العسكري السعودي «المشروع الإيراني» كما أكد الناقد والباحث «طارق القرني» أن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي يعد سببًا لتعقد الواقع العربي، وخرق العقد الاجتماعي. مفيدًا بأن حالة الجهل وضعف الوعي التي استمرت لعقود في البلدان العربية أسهمت بشكل مباشر في تكوُّن ظاهرة خرق الصف العربي من خلال عالم افتراضي، بل جعلت العقل العربي يتشكل فكريًّا ووجدانيًّا عبر تلك المواقع؛ فأضحى تكذيب مؤسسات الدولة الرسمية وتصديق ما يقوله نكرة في العالم الافتراضي أمرًا منتشرًا، وقائدًا للميدان، ومعززًا للفكرة والإدراك الجمعي. وبيّن أن مشروع النهضة العربية لم يحقق أهدافه التي قام من أجلها، منها الوحدة العربية، والوقوف ضد التدخل الخارجي، وتحرير المرأة، ونشر التعليم، ومحاربة الفساد، وغيرها من الأهداف والطموحات التي نقضها الجو العام الدولي والإقليمي الذي نشأ فيه هذا المشروع؛ فكان الاستعمار، والحركة الصهيونية والاشتراكية، أبرز المشاريع العالمية التي وقفت سدًّا منيعًا دون تحقيق هذا المشروع، وأسهمت في بلورة مشاريعها داخل الأرض العربية حتى أضعفته، وجعلته يبوء بالفشل، ثم جاءت مشاريع إقليمية في العشرين عامًا المنصرمة، وبدأت تدب في الأرض والعقل العربي؛ فجعلته يعود لنقطة الصفر مرة أخرى، وأسهمت في تفريق الصف العربي أحزاب وجماعات طائفية وأيديولوجية، اتخذت من الإسلام شعارًا لها لاستمالة العاطفة العربية المنهكة من واقعها المرير. وهذه المشاريع هي: المشروع الإيراني الذي انتهك سيادة دول، واستطاع السيطرة عليها والإعلان الرسمي بذلك، ووصل لهذه الغاية عن طريق ميليشياته الإرهابية في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وحاول أن يفعل ذلك في مصر إبان حكم الإخوان المسلمين، وفي البحرين أثار الشارع لكنه خُمد بعد التدخل العسكري من السعودية. «الحُلم التركي» فوق أراضينا مطيته الإخوان والمسلسلات المدبلجة وبرامج السياحة «عودة الخلافة» وزاد: يشارك هذا المشروع الإيراني في تخريب الواقع العربي المشروع التركي المتمثل في الرغبة الجامحة لعودة «الخلافة» العثمانية على الأراضي العربية، واتخذ من التيارات الإسلامية كالإخوان المسلمين طريقًا له كي يصل إلى مآربه، كذلك توسع في استخدام القوة الناعمة من خلال المسلسلات والبرامج السياحية والأخبار المتنوعة «المصنوعة» لجذب الوجدان العربي تجاهه، وترغيبه في اللجوء للثقافة التركية. ويشاركهم المشروع الصهيوني الذي يعمل منذ سنوات على استمالة الفرد العربي عن طريق إبراز نعيم العيش في إسرائيل، وحرية الحياة فيها، والتنعم بالديمقراطية ومنتجاتها السياسية والاقتصادية. وكل هذه المشاريع وغيرها عملت على جعل العقل العربي مشتتًا وغير قابل للاجتماع تحت راية واحدة أو هدف مشترك. فجاءت الثورات العربية كنتيجة حتمية لكل ما سبق وغيره، وأصبح الهامشي هو قائد الميدان والفكر، ولم تعد القدرة على كبح جماح المتظاهرين، ومعهم المخربون، سهلة يسيرة، ولم تعد الخطابات النخبوية والثقافية تشكل أهمية للخارجين عن النسق السائد، وقامت التيارات الفكرية بمحاولة جديدة لاستقطاب الشارع الغاضب، وشاركت دول إقليمية كإيران ممثلة في ميليشياتها، وعربية كقطر ممثلة في إعلامها وتياراتها الإسلامية، بإشعال الشارع أكثر من حالته التي آل إليها، رغبة منهم في الوصول إلى مصلحتهم الكبرى، وهي الإمساك بطرق الغاز والتجارة الإقليمية. وإتمام هذه المصلحة يكون بالسيطرة على التيارات الإسلامية والشارع المهمش، واللعب على وتيرة العاطفة والحقوق. واستطاعت إيران عن طريق ميليشياتها أن تسيطر على دول عربية عدة، كالعراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وحاولت أن تسيطر على البحرين عن طريق حزب سياسي تابع لها. والخلاصة أنها عملت على توسيع نفوذها، والسيطرة على كل منافذ التجارة العربية، واتجهت للتّجْييش الطائفي للوصول إلى تحقيق هدفها، ولو لم تكن البنية العربية هشة وضعيفة لما وجدت لها قبولاً وتبعية. وقس هذا المثال على كل مشروع إقليمي أو أممي. ونحن نذكر الأمثلة لنوضح عمق المشكلة البنيوية العربية، وتفرق الكلمة والاستراتيجية الموحدة للعمل الناجع الذي يرتقي بالإنسان ويطوره. «شايع الوقيان» المثقف و»السوشيال ميديا» وأوضح المفكر والباحث السعودي «شايع الوقيان» أن المفكر أو المثقف في الأساس إما أن يتناول موضوعًا ماديًّا فيكون - والحال هذا - عالمًا فيزيائيًّا أو كيميائيًّا.. وإما أن يدرس (الظواهر الإنسانية) فيكون الإنسان فردًا أو جماعة موضوع اهتمامه. وقال وهو يطرح جملة من التساؤلات مبينًا طرق الفلاسفة والمفكرين في التعامل مع قضايا الواقع: بما أن مفهوم المفكر أو المثقف صار مقتصرًا على الجوانب الإنسانية فسيكون من الصعب تصور مفكر يعيش في برج عاجي. والسؤال: هل هناك فعلاً مفكر عاجي؟ عندما كان الفارابي يكتب مدينته الفاضلة، وهي مدينة خيالية، هل كان يتجاهل الواقع؟ أم إنه استغل الخيال نفسه لفهم الواقع وتغييره؟ الحقيقة إن المناهج القرائية والتأويلية المعاصرة ترى في مدينة الفارابي الفاضلة أبعادًا واقعية، وأنه كان يتوسل بالمثل العليا لنقد الواقع، وإيجاد بديل له. وقل مثل هذا في كل المفكرين والفلاسفة الذين يتهمون بأنهم عاجيون! «المثقف الموضوعي والأيديولوجي» إذن، ليس هناك مثقف منقطع عن الواقع، بل إن كل مثقف مرتبط بالواقع بصورة أو بأخرى، لكن المشكلة التي تكمن بعد ذلك هي: كيفية تناول المثقف لهذا الواقع؛ إذ هل عليه أن يصوره بموضوعية وينتقده بأمانة، أم عليه أن يسهم في تزييف الواقع والوعي الشعبي به؟ هنا - في الحالة الأخيرة - سنلاحظ ظهور ما يسمى «المثقف الأيديولوجي» الذي يتخذ من المعرفة والمنهجية وسيلة لتحقيق غايات أيديولوجية وحزبية؛ فيصير مجرد عامل أو ناشط أيديولوجي. وهذا النوع من المثقف أكثر خطورة من غيره؛ إذ ليس أشد إيلامًا لموضوعية المعرفة من التلاعب والتحيز والتشويه. أما «المثقف الموضوعي» فهو أكثر حيادًا، حتى لو لم ينجح في تحقيق الموضوعية بشكل كامل، إلا أنه على الأقل بذل جهده، وأدى أمانته. ثمة مفكرون ومثقفون، لا يدرسون الظواهر الاجتماعية بشكل سطحي، بل يحفرون في أعماقها، ويبحثون عن عللها، ويقترحون لها حلولاً وبدائل؛ لذا تظهر نصوصهم على أنها معقدة، وغير مفهومة، وأنها بعيدة عن الواقع، وهذا غير صحيح. فليس شرطًا أن يكون النص الفكري سطحيًّا ليعبر عن الواقع. صحيح أنه يبدو نصًّا مستغلقًا على القارئ غير المتخصص، لكن هنا يأتي دور الصحافة الأدبية والفكرية لتجسير الهوة بين النص العميق والقارئ العادي. فهل لعب مشاهير السوشيال ميديا دورًا في تجسير هذه الهوة؟ «مشاهير لا يصلون إلى أنصاف المثقفين» وتفصيلًا في الجزئية الأخيرة التي طرحها «الوقيان» حول الظواهر الاجتماعية ودور المفكرين والمثقفين والصحافة الأدبية في إيجاد حلول لها، وتجسير الهوة للقارئ العادي، وما إذا كان مشاهير (السوشيال ميديا) يمكنهم لعب دور في هذا المجال الذي وصفه بالمنغلق، قال: برأيي، إن مشاهير السوشيال ميديا بعيدون كل البُعد عن الحقل الثقافي الفكري المتعمق، وإنهم من السطحية والجهل بحيث لا يقدرون على القيام بمهمة التجسير، بل إن هؤلاء المشاهير - للأسف - حازوا شهرتهم ليس بسبب علم أو فكر، بل لأسباب تافهة في الأغلب. والمقرر عندي أن ما ينتجه مشاهير السوشيال ميديا من محتوى لا يرقى حتى لمستوى القارئ المثقف، ولا نصف المثقف، هم يمارسون تسطيحاً متواصلاً لعقلية المتابعين، وتزييفاً لوعيهم الفردي والجمعي. وقد لا يفعلون ذلك بالضرورة عن قصد، إنما يظنون أحياناً أنهم يحسنون صنعاً أو أنهم مثقفون! أما بعضهم فقد بلغ به العجب من نفسه أن نشر كتاباً، وعرضه في معارض الكتب، وهو بالكاد يستطيع تركيب جملة نحوية صحيحة! والمصيبة أن كتب هؤلاء التي هي عبارة عن «ثرثرات جوفاء» تتفوق على الكتب العلمية والفلسفية والأدبية الرصينة من ناحية المبيعات. ولأن لكل قاعدة استثناء فهناك مشاهير من هذا النوع، لكنهم على اطلاع ووعي عميقَين.. على أن صوتهم خفيت، ولا يكاد يُسمع. فهل يتحمل المفكرون الجادون والمثقفون المتميزون وزر انتشار أمثال هؤلاء الطفيليين من مدعي الفكر؟ لا أعتقد ذلك؛ فاللوم إنما يقع على عاتق المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، ولاسيما الإعلامية منها التي تستقطب الفارغين عقلياً، وتتجاهل المتخصصين والمفكرين. ويقع كذلك على المؤسسات الأكاديمية التي تتجاهل كل ما يقع خارج دائرتها من أنشطة فكرية، وأعمال أدبية وفلسفية. صحيح أن الثورة التقنية فتحت الباب واسعاً لكل الأصوات ولكل الآراء، وهذا بحد ذاته شيء صحي وعظيم.. لكن المشكلة أن هناك أصواتاً نشازاً، تم تقديمها، والإعلاء من شأنها على حساب الأصوات الفكرية الحقيقية. فوسائل التواصل الاجتماعي اليوم مسرح للضجيج، وليس للفكر الراقي العميق. وهذه هي طبيعتها بكل حال، فهي لا تسمح بالتعمق والتدبر في أغلب أحوالها، بل بالثرثرة والتسطيح. انزلاق الثرثرة! وجدير أن نشير إلى محاولة المفكرين والمثقفين الانخراط في وسائل التواصل الاجتماعي من باب الانفتاح على القراء والناس عموماً؛ إذ إن هذه المحاولة ترحب بها أخلاق العلم. لكن الكثيرين منهم - للأسف - لم يجدوا مفرًّا من الانزلاق للثرثرة والسطحية لدرجة أن بعضهم صار له وجهان - إذا جاز التعبير-: وجه للقارئ المثقف، ووجه لمرتادي السوشيال ميديا. لا أدعو هنا لهجر السوشيال ميديا، بالعكس، شرط أن يثابر المثقف على تقديم محتوى راقٍ وتنويري، وأن يزاحم الأصوات النشاز التي سيطرت على كل قنوات التواصل. ومؤخرًا أضحت حتى القنوات الرسمية الكلاسيكية تستقطب مشاهير السوشيال ميديا، وترفع من شأنهم، رغم أنهم لم يقدموا شيئًا على الإطلاق سوى أنهم مشهورون، وفي رصيد كل واحد مليون متابع أو أكثر. أضف إلى ذلك أن جمهور الشوسيال ميديا أنفسهم يتحملون شيئًا من عملية التسطيح، بتهافتهم على فارغي العقول، ورضوخهم لهم، حتى تمكنوا من السيطرة عليهم، وأصبحوا يحددون أفكارهم وأذواقهم الفنية والأدبية. المثقفون استغلوه! وزاد: لا أريد أن أكون متشائمًا؛ فمنذ بدايات ظهور الإنترنت في السعودية حدثت تحولات فكرية واجتماعية خطيرة حينها، وكان للمثقفين الدور العظيم لإيصال أفكارهم، مستغلين هذا الظهور «الإنترنت»، لكن ظهور «السوشيال ميديا» ذات الطابع السريع والسطحي قلب الموازين، فصار المثقف مغمورًا منسيًّا، ومشاهير السوشيال ميديا صانعي الوعي الشعبي! مواكبة النهوض لا تمرُّ بالعقول الخاوية وختامًا قال المفكر والباحث السعودي «شايع الوقيان»: إن أمامنا مشكلة، وهي مشكلة كبيرة.. حلها يقع على عاتق المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، من أكاديمية وإعلامية واقتصادية وغيرها. فمواكبة النهوض الحضاري الذي تمرُّ به بلادنا لا يكون باستقطاب العقول الخاوية وترك المبدعين الأصلاء.. فبكل أسف صار أصحاب هذه المؤسسات يستجيبون لما يطلبه الجمهور الذي تم تزييف وعيه وتشويه ذائقته عن طريق عمليات التسطيح الإلكترونية. وبدلاً من صناعة نجم حقيقي اكتفوا بالنجوم الاصطناعية الموجودة ذات المليون متابع. فالمثقف الحقيقي الذي ينفق ساعات طوالاً من يومه في القراءة والبحث، وينفق سحائب من عمره في طلب العلم، لا يلقي له اليوم أحد بالاً. فيما تسنّم الريادة والمكانة الاجتماعية من لم يقرؤوا سوى كتبهم المدرسية، أولئك الذين تحدثنا عنهم، وهذا عامل خطير، سيؤدي لغياب المثقف الحقيقي. أجل، إذا لم تعنَ المؤسسات الأكاديمية والإعلامية والثقافية بالمثقفين الحقيقيين الجادين فسوف يتلاشى المثقف، ويحل محله المهرج الإلكتروني. ومع موت المثقف سيموت الإبداع، ويسود التكرار الممل والسطحية الشنيعة. «البروفيسور الرديعان»: شئنا أم أبينا «نجوم التواصل الاجتماعي» نخب فاعلة البروفيسور خالد عمر الرديعان (علم اجتماع - جامعة الملك سعود) من بين أبرز الأسماء التي عنيت برصد التحولات الفكرية والمجتمعية، ومن أهم من عني بالبحوث والدراسات المتخصصة بأثر التحولات وتأثيراتها (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية ..)، التي نشأت في حياة المجتمعات وانعكاساتها المجتمعية على المستوى الوطن العربي ومحليًّا. وأوضح «الرديعان» أن ما يحدث في خضم هذه الثورة المعلوماتية والمد العولمي نتيجة كون الثقافة أصبحت أفقية، وغير محصورة بالمثقف التقليدي. فاتسعت مع ذلك طبقة المؤثرين في المجتمع، خاصة (نجوم التواصل الاجتماعي) الذين أصبحوا ضمن (النخب الفاعلة) في المجتمع، شئنا ذلك أم أبينا. ويلزم أن نشير هنا إلى أن مفهوم (النخبة elite أو الصفوة) لم يعد قصراً على الطبقة السياسية في المجتمع؛ فالتعريفات الحديثة للنخبة تشير إلى كل من يخلقون تأثيراً اجتماعياً في المجتمع، وكذلك «الفضاء السيبراني»، بما في ذلك نجوم الفن والرياضة والإعلام، وأخيراً نجوم التواصل الاجتماعي. لماذا أطلقنا عليهم نخبًا؟ هذا لأن لبعضهم أتباعًا، أعدادهم بالملايين، وذلك من واقع الأرقام المثبتة. كنتم تبيعون فقط 3000 نسخة من كتبكم.. هذا «نصف مليون» مفارقة! وطرح سؤالاً، أشار إلى ضرورة التوقف طويلاً أمامه، وفي مجمل إجاباته تفسيرات وصف نجوم التواصل بالنخب الصفوة.. فقال: ما الذي يقدمه اليوم نجوم التواصل الاجتماعي كنخبة؟ فهذا سؤال كبير، يلزم التوقف عنده مطولاً، بحكم أن الهم الثقافي والمعرفي عند معظمهم ليس هدفاً أساسياً، وذلك من واقع ملاحظات متكررة في ظل المكاسب المادية التي أصبحوا يحصلون عليها بعد انخراطهم في وسائل التواصل الاجتماعي، والإعلانات المدفوعة التي يحصلون عليها، والتي لم تكن مثلاً متاحة «للأديب والمفكر والمثقف بل الداعية» قبل ثورة المعلومات. ولقد كان الأديب في السابق يعد نفسه مشهوراً ومؤثراً إذا باع ثلاثة آلاف نسخة من أحد كتبه، في حين أن «نجم تواصل اجتماعي» يبلغ عدد متابعيه نصف مليون، وهي مفارقة! «نجوم اليوم» لا هوية ولا فكر ولا أدب ولا فن ولا تنوير! وزاد: لا أعتقد أن نجوم التواصل يقدمون ثقافة بمعنى «الثقافة العليا» (فكر، أدب، فن)، التي تعمق وعي الجماهير بالأخطار المحدقة بها، أو تلك المادة التي تعمق معرفة الجمهور بهويتهم، والارتقاء بهم من خلال الثقافة. كما أنهم لا يقومون بدور تنويري إطلاقاً إلا إذا استثنينا فئة صغيرة، تقدم مادة وعظية مكررة، وهي المادة التي لها مع ذلك جمهور عريض رغم أنها لا تقدم جديداً في الغالب. وإذا استثنينا الوعاظ فإن بعض نجوم التواصل الاجتماعي أسهموا في تسطيح الثقافة، وبعضهم أشاع الكثير من التفاهات؛ الأمر الذي ترتب عليه خلق ذائقة متدنية عند المتلقي. فيما أسهم قسم آخر من هؤلاء في تدجين الثقافة الإنسانية المشتركة، وصبغها بطابع محلي هابط دون أن ينتبه إلى خطورة ما يقوم به من تشويه. أضف إلى كل ذلك، لغة الحوار المتشنجة التي قد تستخدمها شريحة كبيرة من الجمهور في «تويتر» على سبيل المثال. هذا المثقف هابط في تعامله وحمّل «الرديعان» المثقف الحقيقي المسؤولية الكبيرة في شيوع هذه اللغة عندما (يهبط) إلى درك سحيق في استخدامها في تعامله، وحواراته مع الجمهور، وعدم الرقي بالحوار لرفع ذائقة المتلقي، والحد من هبوطه. وحمَّله مسؤولية ما نراه، مما هو مؤلم بحق، من انقسام وتشظٍّ حاد بين المتحاورين؛ الأمر الذي انعكس على علاقتنا مع بقية الشعوب العربية والإسلامية - كما يقول - فبدلاً من أن يصبح الحوار لغة للتقارب أصبح للأسف أداة للفرقة والشتات، وإشاعة للكراهية.. فقلَّ عدد أصدقائنا في العالم بسبب هذه اللغة التي نراها ونستخدمها في وسائل التواصل الاجتماعي. وتساءل مجدداً: أين ذهب المثقف التقليدي؟ وهل تراجع دوره التنويري؟ ثم واصل الحديث: الحقيقة إن المثقف التقليدي لا يزال موجوداً، ودوره يظل مهماً كباعث للوعي، لكن تأثيره قلّ بسبب تغيُّر وسائل التعبير، وتنوُّع أوعية الثقافة بعد ثورة المعلومات وشيوع تقنيات التواصل والتطبيقات الالكترونية الحديثة، إضافة إلى انخفاض شعبية الكتاب الورقي في ظل التقدم الالكتروني. هذه التقنيات الجديدة شتتت المتلقي كذلك، وأوجدت حالة جديدة، لم يستطع بعض المثقفين التعامل معها بمهنية عالية. وزاد: صحيح أن هناك رهطاً من المثقفين انخرطوا في هذه التقنيات، وأصبحوا يتعاملون معها، لكن قسماً كبيراً منهم لا يزالون يعانون من حالة عدم تكيف مع الجديد. وهناك مسألة أخرى في غاية الأهمية، هي أن بعض المثقفين التقليديين لا يزالون أسرى وجهات نظرهم القديمة، ولم يواكبوا التغيرات الهائلة التي جرت في العقد الأخير. وحتى يصبح لهم دور فاعل لا بد لهم من العودة بقوة إلى الساحة الثقافية، وعدم الانكفاء على أنفسهم. وعليهم أن يعودوا إلى مخاطبة الجمهور للقيام بدورهم التنويري، وذلك باستخدام التقنيات الحديثة، والإفادة منها في إيصال أفكارهم. وتركهم للساحة بعد ثورة المعلومات هو السبب الذي جعل غيرهم يقوم بسد الفراغ، ومَلئه بما شوّه الذائقة، بل الثقافة. لا بد أن يكون «المثقف عضوياً»، ينغمس بمشكلات مجتمعه وهمومه وتطلعاته، وأن يبعث فيه الأمل، وأن يطرح رؤى تساعد صانع القرار على تحسين ظروف العيش ورقي المجتمع. الصوت الصادق والمخلص يصل في النهاية حتى لو ارتفعت أصوات الغوغاء، وهيمنت على المشهد الثقافي. الحازمي: موقف الأدب الخلّاق يدعو لتجاوز الأزمة وما بعد الأزمة وأخيرًا يجدر أن نقول: إننا لم نشأ إغلاق باب تحقيقنا دون طرق باب أحد النقاد المهتمين بالنتاج الفكري أو الإبداعي السردي، ندعوه إلى أن يدلو بدلوه مشيرين في الخطاب: لأول «يوتوبيا» مطلع المد الإنساني، (الجمهورية) لأفلاطون، وكتاب القديس «أغسطونيوس» بعد سقوط أثينا، إلى أن نصل العصر الإسلامي، ونلتقي الفارابي وابن الطفيل وآخرين، في «المدينة الفاضلة» و»حي ابن يقظان»، جاء الحديث يدعو للنهوض، وسلامة الإنسان، وبناء المستقبل مستحثًا على تجاوز الأزمة وما بعد الأزمة، على لسان الناقدة والباحثة الدكتورة «إيمان الحازمي» مؤكدة أن النتاج الأدبي لا يقف عند الحدود الواقعية، بل يتعداها؛ لأنه إن وقف عليها لا يُصنف أدبًا؛ لأن الأديب مرتهن بالخيال مهما كان اتجاهه.. فمن يصف الجمال إنما يصف فوق الجمال، ومن يصف القبح إنما يصف فوق القبح. وشددت «الحازمي» على أن المجتمعات عند الأزمة أو ما بعدها إنما تحتاج إلى من يحلق بها نحو البناء للمستقبل وتجاوز الأزمة.. وهذا موقف الأدب الخلاق؛ فالأدباء والشعراء ينطلقون من الخيال الذي يؤمهم نحو رؤية تفارق الواقع إلى متخيل في الحلم. وهذا موقف. وعند الأزمات لا يحتاج المجتمع إلى من يقوض الأمل، وإلى من ينظر إلى الأزمة بواقعية متشائمة، تقتل روح التطلع. ما الذي تجنيه المجتمعات من الأدب الغارق في المأساة سوى تعزيز الخيبة والاستسلام؟ مثل ذلك المثقف، عليه أن يقف موقفًا عاريًا من التملق أو الخوف أو التعصب أو الاستغلال الفكري والأمني؛ فالموقف إن كان مهيجًا للصفوف، ووقودًا على نار الأزمة، لا يعد موقفًا ثقافيًّا. إن إحساس المثقف بمسؤولية موقفه في الأوقات الصعبة يمنحه القدرة على تهدئة الأوضاع لا إشعالها؛ لأن سلامة الإنسان والمحافظة على أرواح الأبرياء وبناء المستقبل هو الهدف الأسمى من الثقافة والمعرفة. موقف المثقف والناقد من الأزمات وشددت الكاتبة والناقدة «إيمان الحازمي» على أن الجامع بين المثقف والناقد والأديب هو اتخاذ موقف ورؤية واضحة تجاه الأزمات، وتحليل مخرجات الأزمة، والتعامل معها وفق معايير أخلاقية وإنسانية، ولاسيما أن المثقف لم يعد في معزل عن المجتمع، وأصبح فضاء الكلمة واسعًا و ممتدًّا أكثر من السابق، وأصبح التواصل المباشر ممكنًا عبر منصات التواصل الاجتماعي. مستدركة: لكن مع الأزمة تتوالد أزمات أخرى عبر وسائل الإعلام الموجهة لأفكار مناهضة وسياسات مضادة، تقود المجتمع نحو أفكارها، والمجتمع يعد جمهورًا مستهدفًا. وهذا الجمع الغفير يتحول إلى قوة تدعم الفكرة التي استحوذت بحضورها الإعلامي عليه؛ وبالتالي يمكنها تحريكه وفق أهدافها؛ لأن مستوى وعي الجماعات يقل عند تلقي الخطاب الذي يدغدغ عاطفتها ويهيجها، فيغيب التفكير الناقد، وتضيع المفاهيم، وتعم فوضى فكرية، لها تداعيات أمنية ومستقبلية خطيرة؛ لذلك يجب اتخاذ المواقف الجادة أمام السيطرة الإعلامية الموجهة. والموقف المؤثر لا يكون بلغة متقعرة مدفونة بالمصطلحات الصعبة التي لا تجد لها قبولاً عند أفراد المجتمع؛ فالمثقف الواعي هو من يتمكن من خلال اندماجه مع المجتمع من صناعة المواقف الواضحة المبينة للحقائق أمام فوضى الأفكار والاتجاهات. فما زال صوت المثقف مسموعًا إن لم يتنحَ هو عن الحضور الإعلامي. وما زال صوت الأدب مؤثرًا إن لم يستسلم للعزلة وللنظرة السوداء.