بالأمس ودَّعَنا رجل من رجالات هذا الوطن الأوفياء، الذين خدموا الوطن بأمانة وصدق وإخلاص. وشخصياً فقدتُ أخاً عزيزاً وصديقاً حميماً من أصدقاء العمر، جمعتني وإياه رؤية مشتركة لمستقبل الوطن وتطوره الاقتصادي. المهندس عبدالعزيز بن عبدالله الزامل «أبو أسامة»، الذي ودعناه بالأمس إلى لقاء رب كريم، داعين له بالرحمة والمغفرة؛ علامة مميزة في محبة وطنه وفي مسيرة النهضة الصناعية فيه؛ وبفقده فقدَ الوطن رجل الصناعة الأول علماً وعملاً، فله أيادٍ بيضاء في تأسيس وبناء أكبر شركة من شركاتنا الرائدة في مجال صناعة البتروكيمياويات؛ شركة «سابك»، وأتبعَها بتأسيس شركات أخرى. فقْدُ أبي أسامة جاء في وقتٍ ليس ببعيد عن أيامٍ كنا نحتفل فيها بميلاد هذا الوطن، الذي أحببناه ونذرنا أنفسنا لخدمته، شأننا في ذلك شأن غيرنا من أبنائه وبناته الأوفياء الحالمين بمزيدٍ من رقيِّه وتطوره. أول ما يتبادر للذهن في هذا الفقد الأليم هو: ماذا أعرف - ويعرف كثيرون - عن هذا الفقيد من صفات وطباع تميزه عمَّن عرفتُ وصادقتُ من الزملاء الكثر - ولله الحمد - الذين أعتزُّ بزمالتهم وصداقتهم؟ ماذا قدَّم هذا الإنسان الفذ المتواضع لهذا الوطن من خدمات، وأنجَزَ من إنجازات خلال فترة حياته؟ وهذا يُرجعني إلى ذكرى أول لقاء وتعارُف بيننا، كان ذلك في مركز التنمية الصناعية في الرياض في عام 1975م عندما كان نائباً للمدير العام للمركز في ذلك الوقت، وكنتُ وقتها أبحث عن موضوع لأطروحة رسالة الدكتوراه، ولمستُ منه التشجيع والتحفيز لموضوع البحث الذي كنت أعتزم اعتماده وكان حول أفضل الأساليب الإدارية لإدارة المنشآت الصناعية في بلد مثل بلدنا، وأذكر ما قاله لي في ذلك الوقت: الإدارة هي العامل الحاسم في نجاح المؤسسات الصناعية أو فشلها. ومضت سنوات دون أن نلتقي بعد تلك الزيارة، حتى عام 1988م عندما هاتفني الزميل المهندس مبارك الخفرة وكيل الوزارة لشؤون الصناعة آنذاك، وذكر لي أنَّ المهندس عبدالعزيز الزامل، وزير الصناعة والكهرباء، يرغب في أن أزوره في مكتبه في الرياض لمناقشة موضوع ترشيحي لتولي منصب الأمين العام لمنظمة الخليج للاستشارات الصناعية، والتي مقرها في دولة قطر، وكنتُ وقتها عميداً لكلية الإدارة الصناعية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وقد أمضيتُ عشر سنوات بعد الدكتوراه في التدريس والبحث العلمي. كان هدفُ ذلك اللقاء هو التأكد من أني قبلتُ عرض الترشيح لذلك المنصب. وقد سبقَ تلك المهاتفة حديثٌ مع الأمين العام للمنظمة - الذي كانت قد انتهت مدة توليه ذلك المنصب - الزميل الدكتور عبدالله المعجل رحمه الله، الذي شجعني على قبول الترشيح، ومن ضِمْن ما أكده لي أهمية المنظمة بوصفها بيت خبرة في المجال الصناعي، وكان الأمناء العامون لها حتى ذلك التاريخ من المملكة وبالتحديد من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، فالأمين العام المؤسس كان الزميل الدكتور علي الخلف، والثاني الدكتور عبدالله المعجل، وكان رأي الدكتور المعجل - رحمه الله - هو أن يكون لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن دور في تطوير الصناعة في منطقة الخليج العربي، فوعدتُه بأني سوف أقبل الترشيح إذا عُرض عليّ، وقام بإيصال موافقتي للمهندس مبارك الخفرة ممثل المملكة في مجلس المنظمة. سافرتُ لمقابلة المهندس عبدالعزيز الزامل من أجل معرفة مدى أهمية تلك المنظمة للمملكة ودول مجلس التعاون، ومدى الدعم الذي سوف ألقاه من وزارة الصناعة والكهرباء في عملي الجديد، ورافقني المهندس مبارك الخفرة إلى مكتب الوزير. كان لقاء مؤثراً ومقنعاً، وتلك المقابلة ربطت بيننا فكرياً وشخصياً، تحدث إليَّ عن تطوير «سابك» وجهود المفاوضات المضنية مع الشركات المرشحة للمشاركة مع «سابك»، وعن رؤيته لتطوير الصناعة في المنطقة، وسلامة ذلك الاتجاه وأهميته لتنويع مصادر الدخل، وأهمية إسهامي كسعودي في مساعدة جميع الدول الأعضاء للرقي بالصناعة دون تمييز. وأذكر ما قاله حرفياً: «التطور لأي دولة من دول الخليج العربية تطورٌ لنا». وجدْتُه يرى أن الصناعة هي الطريق الأفضل لتنويع مصادر الدخل في دول المنطقة، وأنها هي المستقبل (وهذا فِكْرٌ كنتُ أحمله)، وأن الصناعة في دول مجلس التعاون تحتاج لبيت فكر يدرس ويفكر ويقدم رؤى ومشاريع قابلة للتنفيذ في المنطقة، والمنظمة هي بيت الفكر المطلوب. خرجتُ من ذلك اللقاء بأمل الإسهام العملي في التنمية الصناعية في دول الخليج العربية، وفعلاً كانت المنظمة ذلك الكيان الفاعل في طرح الأفكار وتبني المبادرات التي حققت مشاريع نُفذت على أرض الواقع. أثناء عملي في المنظمة وخلال بحثنا معاً عمّا فيه المنفعة والخير لجميع الدول، تزاملنا في رحلاتٍ حول العالم كانت المنظمة رائدة في تنظيمها، من اليابان إلى الصين إلى أوروبا، لعقد مؤتمراتٍ كان الهدف منها الترويج لدول الخليج العربية بوصفها بيئة صالحة للصناعة، ومشاركة الدول المتقدمة في مشاريع تطوير الصناعة في منطقتنا الخليجية. وكانت تلك الرحلات في الوقت الذي كان الفقيد فيه وزيراً للصناعة والكهرباء في المملكة، وكنتُ أميناً عاماً لمنظمة الخليج للاستشارات الصناعية. وأذكر - على سبيل المثال لا الحصر - ممَّا يمتاز به أبو أسامة من رؤية ثاقبة للمستقبل، أني في إحدى زياراتي لمكتبه في الرياض عام 1991م طرحتُ عليه فكرة عقد مؤتمر للحوار مع الصين حول التعاون الصناعي والاقتصادي، وذكرتُ له أنه بعد الدراسة والاستقصاء مع الزملاء في منظمة الخليج اتضح لنا أن الصين هي المستقبل، وهي سوق واعدة كبيرة لمنتجاتنا البترولية والبتروكيمياوية، وهذه فرصة مهمة لجميع دول مجلس التعاون أن تبدأ الحوار معها، فقال: «نحن في «سابك» نفكر التفكير نفسه، فالصين هي المستقبل»، وشجعَني على مواصلة التحضير لذلك المؤتمر. في ذلك الوقت كانت قيمة التجارة بين دول الخليج مجتمعة وبين الصين لا تزيد عن خمسمئة مليون دولار في السنة. وفعلاً عُقد ذلك المؤتمر في نوفمبر 1992م بحضور المهندس الزامل ممثلا للجانب الخليجي، ومشاركة ستة وستين فرداً من القيادات الصناعية الحكومية ورجال الأعمال من دول الخليج، وكان ذلك المؤتمر هو الأول بين الصين ودول مجلس التعاون، ولم يسبقه مؤتمر للهدف نفسه على مستوى الوطن العربي. ليس هذا إلا مثال على رؤيته الصائبة للمستقبل وفكره النيِّر رحمه الله. راحلُنا الغالي أبو أسامة رجلٌ ذو رؤية وفكر متطلع للمستقبل، وكما عرفتُه فإن منصب الوزارة أو النجاحات التي حققها أو الثروة التي منَّ الله بها عليه وعلى عائلة الزامل الكريمة، لم تصنع منه الإنسانَ المتكبر المتنكر لأهله وأصدقائه، بل كان دائماً وفياً ودوداً لطيف المعشر، مرحباً بمن يعرف ومن لا يعرف، عَفّ اللسان صادقاً في قوله، جاداً في عمله، وكانت خدمة وطنه دوماً نصب عينيه، وعندما ترجل من منصب الوزارة بعد كثير من الإنجازات، لم يركن إلى الراحة والكسل، بل شارك في تأسيس شركات صناعية جديدة قادها باقتدار، لتصبح مؤسسات منتِجة ومُسهِمة في بناء الوطن، و لَبِنات خير تُضاف إلى قائمة إنجازاته في سبيل تطوير الوطن والصناعة فيه، وإيجاد وظائف جديدة للمواطنين، وإضافة قيمة للاقتصاد الوطني، فها هي شركات «الصحراء» و»سبكيم» إلى جانب «الزامل للصناعة» وغيرها، شواهد على إنجاز هذا الرجل الفذ وإخوانه الأفاضل. كانت آخر مرة رأيتُه فيها عند زيارتي الخاصة له وهو يستشفي في لندن، وآخر رسالة منه كانت تحية عيد الأضحى موشحةً بصورته الحبيبة تعلوها ابتسامة أمل بالشفاء. في هذا الوقت الحزين لعائلة الزامل الكريمة لفقد أبي أسامة، والذي يشاركهم فيه أقاربه وأصدقاؤه ومعارفه والعاملون معه، لا يسعني إلا أن أدعو الله الكريم للفقيد بالرحمة والمغفرة، وأقدِّم خالص العزاء والدعاء بالصبر والاحتساب لأم أسامة رفيقة دربه، وأسامة وإخوانه وأخواته، وأهل الفقيد وفي مقدمتهم أخوه الزميل الدكتور العزيز عبدالرحمن الزامل، وجميع أقرباء الفقيد وأصدقائه والعاملين معه، وأعزي الوطن في فقد رجل من رجالاته الأوفياء المخلصين. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. ** **