من عادات المكِّيين الجميلة في موسم الحج إعداد الحلوى في البيوت بالتمر، وحنطة القمح «الدَّقيق»، أو بالدَّقيق والسُّكر، وتسمى «الغُرَيِّبة»، وتؤخذ قبل العيد بيوم أو يومين في قوالب خشبية مستطيلة إلى أفران الأحياء جوار البيوت التي يخرج منها حبَّات العجين المحشو بالتمر، أو المخلوط بالسمن والسُّكر، خامًا على رؤوس الأبناء، والأزواج؛ ليعودوا به وقد نضج جاهزًا للأكل.. كذلك من عاداتهم إعداد خلطة «النُّقُل»، وهي مجموعة من «المكسرات» والحلوى الملونة ذات المذاق اللذيذ، وهي حلوى معيَّنة، لم تتبدل إلا مع تبدل محتويات السوق؛ إذ تدريجيًّا تخلى المكِّيون عن «النُّقل»، واكتظت محال الحلوى بالمعمول، وأشكاله المختلفة، ومكوِّناته المختلفة، وتناثرت في كل مكان محال المكسرات المستوردة!.. كان الصغار يتراقصون حول الأمهات للحصول على نصيبهم من «النُّقل»؛ لينطلقوا في أرجاء البيت بملابس العيد المزخرفة، تتباهى بها أجساد الصغيرات من البنات، وطواقيه المنمنمة على رؤوس الأولاد، يتباهون بها أسوة بآبائهم.. هذا الزخم الحيوي للعيد، وحركة النساء ما قبله وهن صائمات الأيام التسعة التي تبدأ بهلال الشهر، وتنتهي بصبيب الدموع يوم الوقفة، انطفأ وهجها، وغدت من المندثرات إلا من بقي على عهده ولم يبدل، وغالبًا ما يكون من المسنَّات، والمسنين.. مكة ذات تراث حيوي.. حضرني هذا الزخم بلذة طعم المعمول تنكفئ جدَّاتنا وأمهاتنا عند صنعه على الصواني الكبيرة مليئة بالحنطة، بعد أن يعددن جوارهن السمن، والتمر، والسُّكر، واللوز المقشَّر الذي يزيِّنَّ به فاتحة كل حبَّة من الغُرَيِّبة، بفرحتهن المشوبة بالحماس والإقبال يعجنَّ، وألسنتهن تسبح الله، وتدعو، فندور من حولهن، وكأننا في لعبة نلفُّ، والدنيا تلف بنا لأيامها التي مرت، وتركت رائحة تلك الحبَّات من الغُريِّبة التي ما بارح طعمها لذيذًا في فمي حتى اللحظة، وحبَّات «النقل» التي حال استلامنا لنصيبنا منها، نهرب لنخبئها بعيدًا، ونستلهم الأكثر منهن منها.. أعادتني لتلك الأجواء «عفاف» وهي تبارك لي عيدي الأول الذي فقدت فيه «محمدًا»، وتنبش معي بعضًا من السِّفر، فإذا هي تقول: «حتى النُّقل» لم أتمكن من شرائه!!.. المسافات بعدت، والتنقل في مكة في موسم الحج يكاد يكون صعبًا.. ولا يزال المكيون على بعض عاداتهم التي اندثرت عند من تجاوزوها منهم قصدًا مع دولبة حياته، وكذلك عند من غادرها فطافت به أمواج السنين بعيدًا عن أجوائها..!!