المدينة التي تلتف بشالها في الأمسيات الباردة لا تحتسي القهوة وحدها, يشاطرها النجم الوهاج في مداه, والنسيم الثلجي الأخاذ.. عصافيرها في الأعشاش تحنو بريشها على صغارها, تلقمها دفء المحاضن الوارفة بالحنان.. نخلاتها في زهو تتمادى في عنفوان صبرها, إذ حتى الزمهرير تقواه لا تنحني له, ولا تنكمش سعفاتها تحت وطأته, كاحتمالها قيظها الشَّره, وصحرائها اليباب, مكتفية ببهاء امتدادها, وامتشاق قِوامها!.. هذه المدينة في شتائها الفضي يلهمها الثلج أن تفيض بجمالها, ليفيض فوق السطوح الساطعة بانعكاسات ندفه, وبرَدَه, وقطنه.. وهي مندهشة بانسياب زمهرير شتائها كما الشلال في عنوته, يطغى فيبعث كوامن النفوس, ونداءات الخواطر, ويحيك الكمائن للأفكار.. هذه المدينة لا تنام, وهي على أية حال في سيرورتها مستغرقة.. بيوتها الطينية نماذج للتراث, أبوابها المندسة تحت أقبية المداخل غادرت للمتاحف, وعلا فوق هامتها الزجاج, والمعدن, تصطك بصقيع ليلها, تحتمي بضوء نهارها.. المدينة الجميلة, الخمرية, الخوصية, الرملية, يافعة وإن تمادت في معصمها الساعات.. ساهرة على الربابة, سارية في الغسق مع رغاء الإبل, تنام على قطر الدلاء, تستفتح الصبح مع شبة النارَ, وإن أترفت حطباتها فوق الأطباق, ونزلت في تجاويف الأحجار!!.. الشتاء في محضنها ساحر خلاب!.. هذه المدينة في شتائها تندس في الخامات, تقارن بين الأنسجة, لم تعد من أوبار الماشية, ولا بمغازل البدويات, نفضت عن شعرها الزعفران, وعن كفها الحناء, لبست الحرير والفرو, وأوغلت في ترف المحيا, ولدونة الكفوف.. هذه المدينة تناهيدها نداءات, وإنسانها مشغول عن تفاصيل جمالها, بكليات رغباته.. والمدن التي لا يُسمع فيها صوت طبيعتها, تنطوي خائبة أنسجتها المنبسطة في مواسمها, تختفي حزينة في لوثة النيون, وصخب الراكضين, وغفلة المغلقين جداول مشاعرهم, ونوافذ تأملهم.. هذه المدن الشتاء في أعطافها يُنافحه اللاهثون, تغتاله الأبواب, والمدافئ, والمياه الساخنة, وأبخرة الأكواب.. وهذه المدينة الفارهة بشتائها, موقظة الصمت, منادية الغفلة, محرضة شهوة المبدعين, مستلهمة إيقاع الشعراء, فأين الجمال النظير لجمالها في حضرة شتائها, في حضرة هوائه, لمساته, زخات غيماته, وفضة قمره, وبياض ثلجه, وأبخرة زمهريره..؟!