مع أن زمهرير البرد يدس الكفين في الدثار, ويلف العنق بالشال, ويغرق الجسم في الصوف.. مع أن الأنفاس فيه تتجمد في الفراغ, والأطراف ترجف بلا إرادة, والوجه يكلح من لفحاته.. مع أن الإنسان يقاومه بالتدفئة, ويهزمه بالحطب, ويقاومه بالدسم, وينسيه بالشراب الساخن.. مع أنه في البراري قارس, وفوق الجبال هالك, وفي الشتات مميت, ودون مأوى موحش, وبلا أهل مخيف.. لكنه يمْثُل ببياض ثلجه شبيه الأكفان, بلسعه شبيه الذنب, بقسوته شبيهة الظلم, بملمسه شبيه القطن, بليله المغرق فيه, وبنهاره المتسق معه.. زمهرير الشتاء في الشمال الغربي تختفي ببياضه فضاءات تنبسط, وجبال تنتصب, وبسيطة تتلوى, وتنهض لوحات للعيان مذهلة بجمال ما في أسرار الله من الإبداع.. تلك جبال «اللوز», ومرتفع «علقان», و»الظهر», وامتداد «نيوم», والشجر المخضب بثلجه, والإبل الصامدة لكسائه, والعربات, والبيوت وقد اختفت معالمها بهطَّاله الناصع بياضًا.. كلها لوحات توحي للمخيلات في كمون الشعراء, والناثرين, والرسامين, والعازفين لأن يفُضُّوا عن مكنونهم, ويدلقوا دلاء ألوانهم, وأحبارهم, وأوتارهم ليقولوا.... مع أن زمهريره أقوى من أجساد البشر, لكنه لا يقاوم مكنونهم حسًّا, وفكرًا, محابرَ, وعلبَ ألوان... و... و...