باريس ، لندن ، نيويورك من أكثر المدن حضوراً في تجربة الشاعر المعاصر ، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن هذه المدن تمثل واجهة من واجهات الاستعمار، و أنموذجاً من نماذج الفساد والخواء الروحي، يقول بدر شاكر السياب في قصيدته الموسومة «سفر أيوب» عن لندن: ولولا الداء ما فارقت داري يا سنا داري وأحلى ما لقيت على خريف العمر من ثمر هنا لا طير في الأغصان تشدو غير أطيار من الفولاذ تهدر أو تحمحم دونما خوف من المطر و لا أزهار إلا خلف واجهة زجاجيّة يراح إلى المقابر والسجون بهنّ والمستشفيات ألا ألا يا بائع الزهر أعندك زهرة حيّة أعندك زهرة مما يربّ القلب من حبّ وأهواء أعندك وردة حمراء سقّتها شموس استوائيّة أأصرخ في شوارع لندن الصّماء هاتوا لي أحبائي ولو أني صرخت فمن يجيب صراخ منتحر تمرّ عليه طول الليل آلاف من القطر؟ أو حيث يعيش المرء حالة من الغربة، الوحدة، أو حيث يموت هناك وحيداً غريباً منفياً. كما تقول فدوى طوقان في قصيدتها المعنونة ب»في المدينة الهرمة» عن لندن: وتلقفني في المدينة هذي الشوارع والأرصفة مع الناس، يجرفني مدَّها البشري، أموج مع الموج فيها، على السطح ابقى بغير تماس ويكتسح المدُّ هذي الشوارع والأرصفة وجوهٌ وجوهٌ وجوهٌ وجوهٌ، تموج على السطح، يقطن فيها اليباس، وتبقى بغير تماس. هنا الاقتراب بغير اقتراب هنا اللاّ حضور حضورٌ، ولا شيء إلاَّ حضور الغياب وأما نيويورك فقد حظيت باهتمام كثير من شعرائنا، أمثال الفيتوري، وأحمد عبدالمعطي حجازي، ومحمود درويش، وإبراهيم نصر الله ... باعتبار أن هذه المدينة يتجسد فيها مصائب أمتنا العربية والإسلامية، بدءاً من نكسة فلسطين، ومروراً بتدمير العراق والحبل على الجرار. يقول محمد الفيتوري: نيويورك يا غابة الموت ملعونة كيف أنتِ فهذا الذي لطخته يداك جبينك أنت لعل هذه التجارب الشعرية تمثل معادلاً موضوعياً لمعاناة هؤلاء الشعراء، وتعبيراً عن همومهم وموقفهم من المدينة الغريبة بعامة. حيث انعدام الدفء واحترام آدمية الإنسان، والحضارة المادية المفرغة من القيم. ** **