لا أظن شاعراً عربياً يغمس قصيدته في ماء الحياة، كما يفعل الشاعر العراقي سعدي يوسف، فمنذ أن غادر بحور الخليل، ودخل بقوة الى أفق حداثي مفتوح، ظل هذا الشاعر منتمياً بكليته الى العادي، والمألوف، ولكن في تجلياتهما غير العادية وغير المألوفة، فهو يرى الحياة في حال افتضاحها، فإذا هي أشبه بالمأساة. وهو إذ يتجول في أزقتها محاولاً وصفها أو استحضار ملامحها وتفاصيلها، يبدو كمن يرتق أوراق الشجر، بعد ليلة عاصفة محملة بالغبار. سعدي يوسف شاعر يملك عينين، لعلهما تختصران الحواس كلها: الناقد الذي يدخل فضاء سعدي يوسف الشعري ستدهشه بالتأكيد ضخامة الرؤية، ومدى الإحاطة بالتفاصيل والجزئيات، ولكن ليس في وصفيتها الخارجية كوقائع مشهدية صامتة ولكن - وهذا هو المهم - بوصفها حركة موّارة تلتبس وتتضح، فترسم في التباسها واتضاحها انحناء الشعر نحو نفسه من أجل تجاوز الآلام الأولى بآلام جديدة، أو إذا شئنا الدقة، من أجل استعادة الحزن الأول بكيمياء الحزن الجديد، حيث الحياة ذاتها نهر السكينة والانبعاث معاً، وحيث من حق الشاعر المجرّب للألمين معاً - الحزن والشعر - أن يتواطأ مع ذاكرته على إعادة ترتيب الأماكن والأشياء، وترتيب مواقع الآخرين، وأخيراً، وربما أولاً ترتيب مواجع القلب وانكسارات الروح بما يليق بقصيدة تجاوزت منذ دهر طويل حيرة البحث عن وجودها وكيانها. وراحت بدلاً من ذلك، تعيد في كل مرة صوغ هذا الوجود من جديد. مجموعتان شعريتان جديدتان أطلقهما سعدي يوسف قبل فترة قريبة، "قصائد العاصمة القديمة" و"حياة صريحة" دار المدى للنشر - دمشق - 2001، وفيهما ما فيهما من اقتراحات على مشروعه الشعري الذي لا يكاد يستقر حتى يثب واقفاً، يرعبه القلق من الثبات فيبحث عن عالم لم يكتشفه، وسلاحه الأهم في ذلك رؤية العينين - على اتساعهما - ولكن أيضاً رؤية المخيلة إذ تقتحم فضاءات فتعيد تلوينها هجاء المنفى هو الموضوع الأبرز في قصائد هذه المجموعة، بل لعله الموضوع الوحيد، ولكنه هجاء يستنجد بالحياة ذاتها كي تكون نقيضاً، وكي تكون ذريعة مقبولة من أجل مواصلة العيش: يفعل سعدي يوسف ذلك متكئاً على مشهديات حياة يومية تصطبغ بالموات وتغرق في لجّة الألم الرتيب الذي تكرّره الأيام المتشابهة، والعادات الصغيرة التي لا تشابه الحياة قدر ما تشابه نقيضها. تكاد "قصائد العاصمة القديمة" أن تكون رثاء لحلم، أو هي إشراقة الحلم القديم - الجديد في بحثه الذي لا يكل عن حضوره في الحياة الواقعية، بعد أن طال حضوره في الذهن والمخيلة، فنراه هنا فاجعاً يزدهي بجراحه: "للعراق، الرمال التي لا تغني. العمادية ارتفعت في الهواء عمودية، والجنود ينامون تحت صفيح السقيفة...". ذاكرة سعدي يوسف الشعرية هي بمعنى ما ذاكرة شاعر جوّال، أمضى سنوات طويلة من حياته يجوب المنافي الكثيرة حالماً بالعراق، غير انه هنا يبدو كمن طفح به الكيل... إنه يطلق باتجاه المنفى هجاءً من نوع فريد، لا يبدو محصوراً في العناوين العامة أو القضايا الكبرى، بل كذلك في التفاصيل اليومية التي تؤلف حياة المنفيين، والتي يكتشف الشاعر المنفي فسادها أمكنة ووقتاً، فيعلن قطيعته مع المكان في لغة مباشرة... قطيعة تدفعه أن يتذكر مآل المنفيين، حين يموتون "بعيداً من السماء الأولى" فلا يجدون قبراً سوى الأرض الغريبة: "لم آت مدينتكم لندن كي أعرفها / وأقيم بها... أنا جئت أخضّ مياهاً راكدة / وأراقب مركبة الموتى / تحمل أشلاء، كي تُسكنها أرضاً باردة...". "قصائد العاصمة القديمة" إذ تطلع من حدقتين تريان وتلاحقان التفاصيل، تجيء أقرب ما يكون الى قصائد بصرية... حيث المشهد هو الأساس، والشاعر يكوّن مشهده برغبة في إشراك القارئ في ما يرى. المشهد في قصائد هذه المجموعة يحمل - غالباً - حركته... سيرورته، ويعزف عن الثبات، وكأن القصيدة إعادة تمثيل ما وقع فعلاً، أو كأن الشاعر يريدنا شهوداً على ما وقع، وهو إذ يعيد تركيب ذلك، يبلغ مداه الدرامي الأقصى، خصوصاً في "القصيدة الخامسة"، تلك التي أثارت غضب كثيرين من أصدقائه المنفيين، وكأن سعدي يوسف إذ يضع قدمه في المنفى، يصرّ في اللحظة ذاتها أن يعلن أيضاً براءته من ذلك المنفى. قصيدة فيها الكثير من صراحة جارحة: "لم تعودوا، مثل ما كنتم، عماليق القرى، يا اخوتي: أنتم هنا الغرباء، والبؤساء، أيتامٌ بمأدبة مسخّمة، وكيس قمامة في أسفل البرميل. لا! لا تيأسوا! فلقد يمر بكم وللحظة تجار، ثم تدخل عصبة النخاس، ترفع في مقرّ السوق مصطبة، ويرتفع النداء من المنادي: كم؟ ويأتي المشترون، وأنتمو تتمهلون، سذاجة في السوق، تنتظرون معجزة، ولستم تنظرون، كأنكم حقاً جواميس القيامة في منافعكم، وأكياس القمامةِ...". أعتقد ان هذه "القصيدة الخامسة" تبدو أكثر من قصيدة هجاء لمنفى يبتلع عشرات، بل ومئات آلاف العراقيين، إنها أشبه بصرخة حياة تتجذر في الروح وتدفع الى هذه المكاشفة الثقيلة والجارحة، والشاعر إذ يطلقها بهذا الوضوح إنما ينشد هدفاً محدداً: أن يدفع هؤلاء المنفيين الى مقاومة النعاس والبكاء بعيون يقظة مفتوحة: "فلنذرف، ولو شمعاً، ولو دمعاً من التمساح / ولنحفر عميقاً في ملابسنا / وفي راحاتنا / فلعلنا نلقى مع النكران أنفسنا / ونعرف ما نريد". في مجموعة سعدي يوسف "قصائد العاصمة القديمة"، تأكيد أعمق على أهمية التفاصيل المعيشية اليومية من خلال إعطائها بعداً جديداً، نلمسه في تشخيص المرأة في بعض القصائد، كأن نجد الشاعر يتحدث الى امرأة محددة، يخاطبها باسمها. المرأة في حال كهذه ليست امرأة المثال والمخيلة، بل امرأة بملامح خاصة وكيان خاص. هنا تقترب القصيدة أكثر من كل ما له علاقة بشخص الشاعر، بحياته وبوقائع هذه الحياة، إذ يتخلص الخطاب الشعري من هلاميته وينحو نحو "حقيقة" تفرض دفئها وحميميتها، وفي الوقت ذاته تزدهر القصيدة بخضرة الحياة ونسغها. انه الخط الأساس الذي بدأه سعدي يوسف منذ عقود ثلاثة في الشعر العربي الحديث ونعني التوجه نحو الحياة اليومية واستحضار تفاصيلها وجزئياتها التي حرص الشعراء الآخرون على رؤيتها في حال قطيعة مع الهموم العامة والعناوين الكبيرة، في حين رأى سعدي يوسف وشائج عميقة تربط القضايا العامة بهموم الانسان الفرد وتفصيلات حياته، حيث الأحزان الفردية "الصغيرة"، تشكل مجتمعة جبل الأحزان الذي ينيخ على صدر الأمة ويثقله. هنا أيضاً، يمكن القول ان سعدي يوسف في هذه المجموعة يتجاوز مرحلة شعرية عاشها أخيراً، جاءت قصيدته خلالها باردة على غير العادة الى الدرجة التي صرح فيها الشاعر انه يكتفي بنجاح قصيدة واحدة في كل مجموعة، في حين انه في "قصائد العاصمة القديمة" يعود الى ألقه المعهود في قصائد المجموعة كلها. مونولوغ شعري في مسار شعري آخر، تذهب مجموعة سعدي يوسف الثانية "حياة صريحة". فالشاعر الذي رأيناه في "قصائد العاصمة القديمة" يقدم شهادات شعرية مكثفة وأقرب الى اللوحات والمشاهد المستقلة، يبدو في هذه المجموعة شغوفاً بتقديم شهادة طويلة، أقرب الى خلاصة تجربة حياة، وهو خلالها يأخذ الشعر الى لغة سردية وخطاب سردي تقف فيه الذاكرة في موقع أساس. سعدي يوسف في "حياة صريحة"، يكتف مونولوغاً شعرياً طويلاً، يعود خلاله الى محطات حياتية عدة تمتزج فيها الحوادث الواقعية بالرؤية: "كنا في كوخ من سعفٍ وجذوعٍ / كوخ في بستان النجدي / بناه أبي بيديه العاريتين... / الجدول يلمس باب الكوخ / ويلحس أطراف القدمين بأسماك من فضة". وسعدي يوسف إذ يبدأ من كوخه البسيط قرب شط العرب في البصرة، كأنما يود لقصيدته أن تكون إطلالة متمهلة على وقائع حياته كلها، حيث انطلق من هناك... من البصرة، ليجوب مدناً وعواصم كثيرة، وليعيش محطات ومحطات، شهدت وقائع حقيقية، وكانت في الوقت ذاته منطلقاً لتجربة شعرية امتدت من عدن الى "نهايات الشمال الافريقي" مروراً بأوروبا وموسكو ولندن أخيراً. هذه "السردية" الشعرية إذ تعود الى تلك المحطات في الذاكرة تحرص أن تكون عودتها انتقائية، فتختار منها ما يجمع أيام الطفولة الأولى، الى أيام سياسية وحروب دموية. وكأن الشاعر يرى تراجيديا ذاكرته في هذا المزيج المرّ بالذات، أو كأنه يقول لنا في لغة شعرية يانعة، ان الشعر الجميل هو ذلك الذي يقدر أن يتجاوز ثنائية الذاتي والموضوعي، فيرى أن كل واحد منهما نسبي... بل إن الحياة برمتها إن هي إلا انصهار الأحزان الانسانية الطالعة من هذين الحديين القصيين والمتحدين معاً في الوقت ذاته: "الآن / أكاد أرى وجه أبي الغائمَ / - ما أبعد هذا المنتبذ البحريّ بأبراج كنائسه / عن قريتنا، حيث يغيم النخل - / ولكني أغمض عينيّ لأبصر وجه أبي... / كان جميلاً / جدّي قال له في المهد: / أنا أسميتك يوسف". خصوصية تجربة سعدي يوسف الشعرية تنبع من هنا، من انطلاق قصيدته من لحظة حرية وافرة الظلال، فهي تصنع تقنيتها وفنياتها من خلال انسجامها اللامحدود مع ما في الحياة ذاتها من شعرية منثورة هنا وهناك، وقارئ سعدي يوسف عموماً، وهذه المجموعة خصوصاً سوف يلحظ بالتأكيد حجم انتماء قصيدته الى فضاء انساني مفعم هو الآخر بالشعر، ويبحث عن حدقة شاعر تلتقطه من العادي، الذي لا يرى ما يدهش في هذا العادي. فمقاربات سعدي الشعرية للواقع، تضع قصيدته دوماً في مكانة مستقلة عن غيره من شعراء الحداثة العرب. وقارئ هذه المجموعة بالذات ستستوقفه طويلاً قدرة سعدي على الاصغاء برهافة الى نبض الشعر في الوقائع اليومية... الى شاعرية الحدث، والى أهمية وعي الشاعر دوره - ومن ثمّ وعي القصيدة لدورها - وهو في تجربة سعدي يوسف وعي بنثار العشر الملقى على قارعة الطرق، وفي كلام البسطاء من الناس، وأيضاً - وهذا بالغ الأهمية - الساكن في الطبيعة والبيوت والشوارع المزدحمة. في "مرحلة" من هذه القصيدة الطويلة ، يقدم سعدي يوسف ذاكرة تختلط فيها وقائع الاجتياح الاسرائيلي للبنان وبيروت، بوقائع "حرب الإخوة" في الشطر الجنوبي سابقاً من اليمن، ويضيف اليها ذاكرات اخرى من فكتور سيرج مرة ومن كريدو متوا مرة أخرى. هذا "الخليط" الواضح - إذا جاز التعبير - يرتفع بذاكرة الشاعر، من موقعها "السردي" الى "سردية شعرية"، لا تثقلها لغة القص، ولا تقلل من شاعريتها مشهدية الحوادث، بل لعلها على العكس من ذلك تماماً تمنحها اقتراباً أكبر من روح شاعرية لها ما لها من خصوصية وجاذبية. "حياة صريحة" إذ نقول انه قصيدة "سردية" طويلة، إنما نشير الى عضوية فنية تربط هذا المونولوغ المؤثر ولا نغفل عن الاشارة الى أن مقاطعه المختلفة تقدر أن تكون قصائد مستقلة، تحمل كل واحدة منها ذائقتها الخاصة، والشاعر إذ ينسجها على هذا النحو ينطلق من حال كتابة واحدة، تجعل المجموعة كلها، تنتمي الى هذه الحال وما فيها من شجن انساني وأيضاً من فنية شعرية. مجموعتا سعدي يوسف "قصائد العاصمة القديمة" و"حياة صريحة"، إضافتان مهمتان، الى تجربة شعرية ترسخت منذ زمن طويل في ذاكرة الناس، وخصوصاً الأجيال الجديدة من الشعراء العرب الذين استفادوا كثيراً منها، وخصوصاً من اهتمام سعدي يوسف بالتفاصيل، ومن انتباهه الى ما في هذه التفاصيل من شاعرية.