يتلمّس وجهه بهدوء.. تسميه والدته الهدوء الذي يسبق الانفجار، يبتسم أيضًا في هدوء وهو يتخيل ملامحها كما يذكرها في صغره.. وجهَها الصغير، وابتسامتَها المرتبكة، ونظراتها العميقة.. قد يكون العمر رسم على وجهها تغضّناته وخرائطَه، لكنه يحتفظ لها بصورة وحيدة؛ هي الصورة التي فاز بها من سنواته القليلة، قبل أن يفقد بصره.. يُصدر صوتًا يشبه الحمحمة ليعلمها أنه استيقظ, ما زال يجهل أين يضع رجله في هذا المكان الغريب .. الشيء الذي يجعله يثور دون سبب.. تُمسك يدٌ صغيرة بيده الضخمة، فيتحسّسها بامتنان، قبل أن يطبع عليها قبلة.. - صباح الخير يا أمي.. - هذه أنا يا أبي..! يضحك بصخب.. فهو يعرف أنها ابنته، لكنه يحب أن يناديها: (أمي)..! وهي أيضًا يسعدها أن يظن والدها أن يدها الصغيرة تشبه يد والدته.. يبدأ نهارهما بخطوات تحاول من خلالها أن تجعله يحفظ خارطة المكان الجديد.. هي وحدها تدرك مدى ضياعه بدون بيته القديم، وبدون أمه! يتأفّف كثيرًا ويفقد هدوءه, لكنها تظل صامتة وتكتفي بالتربيت على يديه، إلى أن يقرر التحرك.. يعرف أنه يضغط على الصغيرة بشكل لا تتحمله ولا يُطيقه عمرها الصغير, لكن ما عساه يفعل وهو عاجز حتى عن اكتشاف موقع قدمه، ولا يكاد يخطو خطوة دون أن يتعثر بشيء ما ويسقط..! تُنهي ابنته لحظات يأسه بضحكة عفوية، وهي تمسك يده وتسحبه لينهض، وتقول بمرح: - ما أثقلك أيها الطفل الكبير..! شيءٌ أكبر من غضبه ومن حزنه يجمعهما؛ وهو الذي فقد أمه وفقد زوجته وبصره.. وهي التي فقدت أمها وفقدت طفولتها لتعتني به..!