بقلم: جواهر الخثلان هيفاء.. فتاةٌ في ربيعِها الثاني والعشرين .. تبدو كفراشةٍ بيضاء رشيقة الحركة، تعلُو شفتيها ابتسامة ساحرة، عيناها شقراء بلونِ قهوة عربية براقةٌ جميلة، ولها نظرةٌ عميقةٌ وجذابةٌ، خطواتها عزفٌ منفردٌ على أوتار الأرض، عذبةٌ كالماء، نقيةٌ كالسحاب، حضورها أخّاذ، وغيابها مؤثرٌ رغم حداثة سنّها، أحلامها تشبه الغمام في عُلوها وجمالها، طموحاتها تعانقُ إصرارها على أن تكون، فكان النبوغ والتميز لها عنوان .. اعتادت حين عودتها ظهرًا أن تتفقدَ حديقة منزلهم الصغيرة، فتسقي هذه وتقطف تلك، وتجتث بعض النباتات المتطفلةِ وتعود لتلامس شجرة الليمون الصغيرة، تراقبها وتفرح بالنموّات الجديدة فيها، ثم تسرع لوالدتها فتحضنها وتقبلها، وتحكي لها بعضًا من تفاصيلِ يومها الجامعي وهي تدورُ حول والدتها وتمدّ يدها لتخطف قطعة من سلطةٍ في إناء أُعد للغداء، أو تفتح الثلاجة وتتناول منها ما تأكلهُ على عجالة وهي تتحدّث، ثم تصْعد لغرفتها لتبدل ملابسها، وتعود مجدّدا لاستكمال ما حفظته في تلافيفِ ذاكرتها من أحداثٍ على مائدةِ الطعام، حتى يضطر معها شقيقها عادل إلى التدخل لإسكاتها متعمدًا استفزازها وممازحتها، إذْ اعتادا على مشاكسةِ بعضهما مُزاحا، فعادل أقرب لها من نبضِ وريدها، فقد كبُرا معا رغم أنه يسبقها بعامين إلا أن الناظر إليهما يظنّ أنهما توأم لتقاربهما شكلا ومضمونا.. وفي ذاتِ مساءٍ عادت هيفاء على غيرِ عادتها متوَعكة تشعر بالصداع، وصعَدت غرفتها بهدوء دون أن تمارس طقُوس الإزعاج اليومية كما أسماها عادل.. لمحتْ والدة هيفاء تضاريس توعك على تقاسيم وجه هيفاء فبادرتها : – هل أنت متعبة يا هيفاء؟ – فردت هيفاء بهدوء: نعم شيئٌ من صداعٍ وغثيان – تركت والدتها ما كان في يدها وأقبلت إليها تتحسّس جبينها وهي تُتمتم : لا بأس، لعلك تعرضت للهواء البارد أو … ولم تدعها هيفاء تكمل وقاطعتها: قد يكون. واستطردت: أمّي..! ليس لي حاجة في الأكل فقط أريد قسطًا من الراحة، واستدارتْ عائدة لغرفتها وهي تشعر برجفةٍ غريبةٍ تسري في جسدها أوعزتها للحمّى التي تهاجم أوصالها، سألَ عادل والدته عن هيفاء وهو ينظر لمقعدها الخالي و يُمازحها.. – أين ابنتك سليطَة اللسان؟ الهدوء يعمّ أرجاء المنزل في غيابها..! – ردت والدته وهي تسحبُ نفَسا عميقا وكأنّ همًّا كبيرًا يجثُم على صدرها: هيفاء ليست على ما يُرام يبدو أنها متعبة قليلا ودخلت غرفتها لتنام، وأكملا تناول طعامهما وصمتٌ مهيب يطبق على المكانِ لم يقطعه إلّا صوت خطواتِ عادل مغادرا إلى غرفته لتبقى والدتهُ تنقر بملعقةٍ في يدها على طاولة الطعام ثم تنهَض فجأة وكأن هاتفًا يهتف داخلها: اذهبي لغرفة هيفاء..! تقدمت بهدوءٍ ووضعت يدها على مقبض الباب لتفتحه دون أن تتسبّب في إزعاجٍ لابنتها وتطلّ بجزءٍ من جسدها، فإذا بها تشاهد هيفاء وقد احمرّ وجهها، وتسَارع نَفَسها، وتهذي بكلماتٍ غير مفهومة، لتدفع والدتها الباب وتُسرع لها وتمدّ يدها فتمسك كفها وجبينها وإذا بحرارتها مرتفعة جدّا والفتاة لازالت تتمسك بغطاء وكأنما تنشد الدفء..! – هيفاء .. هيفاء .. حبيبتي ماذا بك .. تناديها والدتها فلا تجيب – تركت يدها وأسرعت تنادي: عادل .. يا عادل أسرع .. – في لحظةٍ واحدة انقلبَ هدوء المنزل إلى ضجيج وحركة، تمددّت بعدها هيفاء في المقعد الخلفي للسيارةِ تتكيءُ برأسها المحموم على صدرِ والدتها اللاهثِ خوفًا، وتنطلق سيارة عادل بسرعة نحو المستشفى وتتلقفها أيدي الممرضات على عجل إذْ لم يعد يصدر عنها أنين أو ردات فعل، فقد دخلت في غيبوبة عميقة، و تُستكمل فحوصاتها وتُنقل بسرعة إلى غرفة العناية الفائقة، وتُمنع عنها الزيارة لتنهار والدتها وتنخرط في نحيبٍ موجع يحاول معه عادل أن يحتوي حزنها، ويخففُ من لوعتها بضمها ومواساتها، وإقناعها أن لا خطر يهدّد حياة هيفاء ويجب عليها مغادرة المستشفى فلا فائدة من بقائها.. وهنا بدأت مرحلة من الهمّ تتمدّد في قلب أمّ يكاد فؤادها يفرغ هلعًا على ابنتها، كان عادل يمسك بيدها تارةً بكلتا يديه يساعدها على النهوض عن مقعد تهاوت عليه مفجوعة من تسارع الأحداث، وتارات يعود ليحضنها ويقبل يديها، ويتوسل إليها بصوت مرتجف تبدو فيه نبرة بكاء يحاول أن يكتمها.. – أمي..! هيفاء بخير ولكن لا فائدة من بقائك هنا، هيّا للمنزل يا أمي وفي المساء نعود و … فتقاطعه بذهول وعيناها تنظران إليه شاردتان بلا تركيز – عادل هيفاء هنا .. هيفاء لا تسمعني .. هيفاء .. وتعود لتئنّ بحرقة.. – أمي أعدك أني سأعود بك مساءًا فقط هيّا معي لترتاحي قليلا.. – وتُقبل إحدى الممرضات ذات السحْنة الآسيوية، وتتحدث بلغة عربية مكسرة، ماما إن شاء الله كله تمام، وتمسك بيدها تساعدها على النهوض فتستجيب لها بلا وعي، وتقوم معها تسندها وهي تسير حتى وصلت سيارة عادل – فأجلسها مقعدها، وانطلق بها للمنزل الذي ما إن ولجته إلا وشعرت وكأنه منزل مهجور منذ عقود..! فالهدوء يعم المكان وكأنما اتّشح بالحزن فبَدا رماديًّا بلا لون..! – تقدمت إلى حيث تركت طاولة الطعام، وبقايا الأكل الذي لم تتناوله هيفاء لازال في مكانه، ومكانها فارغًا ممّا جعل الأم تتقدم نحوه ببطء وتجلسُ فيه، وتنكبّ برأسها على مائدة الطعام باكية، ليتدخل عادل قائلا: أمي اذهبي لغرفتك خذي قسطًا من الراحة حتى نعود في المساء للمستشفى، وأخذ يقوم بجمع الأطباق ونقلها للمطبخ في حركة سريعة ليعود بعدها إلى غرفته متعبا يشعر بالغثيان من شدة خوفه على شقيقته.. وتمضي الساعات ووالدة هيفاء لا تدري إلى أين تذهب؟! ولا أين تقف؟! فهي في حركة دائبةٍ يشوبها القلق والتوتر حتى حانَ المساء ليخرج إليها عادل والذي لم يذق طعم النوم ولا الراحة هو الآخر.. – أمي هل نذهب؟! – وبلا إجابة منها سارت أمامه وقلبها يسبقها كطير حبيس يكاد يخرج من صدرها ويطير حيث ترقد هيفاء، تودّ لو تزيد من سرعة السيارة وتُبعد ما أمامها من سائرين، وأفكار مختلفة تعصف برأسها.. هل استيقظت هيفاء؟ أتراها تفتح ذراعيها لها لتحضنها بعمق وتقبلها كما عودتها كل ظهيرة وفي المساء قبل أن تنام؟ – هل تناولت الطعام ؟ وهل وهل وهل..؟؟ أسئلة تُلح على عقلها تودّ لو أن يفتح لها نافذة لتقرأ إجابتها قبل أن تصل .. مال هذا الطريق لا ينتهي ألقت بالسؤال بتضجر والتفت عليها عادل مطمئنا: أمي اهدئي الطريق هو نفسه ولكنك أنت لست نفسك! اطمئني هيفاء بخير إن شاء الله .. وحتى يقطع عليها الطريق سألها بشكل مفاجئ أمي الجامعة..!! التفتتْ إليه وقبل أن يكمل أجابت: ليست مهمة المهم أن تتعافى هيفاء.. أمي ولكن مستقبلها، لِمَ لا تتصلي بإحدى صديقاتها و…. عادل هيفاء مريضة و.. واختنق صوتها بعبرة أليمة لم يسعفها للتخفيف من ألمها إلا نشيج موجع، وغرِق عادل في صمت رهيب ضغط معه بقَدمِه على دوّاسة البنزين ليزيد من سرعته للوصول إلى المستشفى حيث ترقد هيفاء بلا حراك..! دلَفا باب المستشفى، وركضت والدته وكأنما تسير مبرمجة نحو غرفة العناية الفائقة لتعترضها إحدى الممرضات قائلة : – ممنوع يا ماما – هيفاء هنا .. هيفاء وهي تحاول بيدها أن تبعد الممرضة عن باب الغرفة، ويتقدم عادل ويمسك والدته من كتفيها ويتحدث للمرضة – هل بالإمكان رؤية المريضة إنها والدتها – لا يمكن ممنوع وبإمكانكم مشاهدتها من خلف زجاج النافذة وأشارت بيدها نحو نافذةٍ زجاجية كبيرة لا تفتح..! – وساعد والدته للتوجه للنافذة وقد سبقتهما الممرضة للداخل لتؤشر لهم على السرير الذي ترقد فيه هيفاء – تلمست الأم زجاج النافذة بحنان وهي تبكي وكأنما تتحسس وجه ابنتها، كانت تودّ لو أنها قريبة لتضمّها وتقبلها ولكن … – وحين لاحظ عادل ألم والدته احتضنها وجرّها للخلف وهو يقول: دعينا نذهب للطبيب نسأل عن حالتها، وبلا مقاومة استجابت له الأم ولا زال نشيجها يسمع في الممر.. – وبينما هما يسيران إذْ لمح عادل الطبيب المباشر وأسرع نحوه – دكتور هلّا طمئنتني على هيفاء..! – حالتها حرجة لديها حُمّى وتحتاج إلى علاج مكثف بالمضادات، بإذن الله تتحسن وربّت على كتف عادل مواسيا ومضى… – استدارت الأم ببطء وتقدمت بخطوات مرتبكة نحو اللاشيء لا تدري إلى أين..! لولا أن أخذ بيدها عادل متجها بها إلى الباب – تمضي الأيام والليالي وهيفاء ترقد في المستشفى بلا حراك – ووالدتها تقضي جلّ وقتها في منزلها تدلف لهذه الغرفة لتخرج منها لغيرها حتى يستقر بها المقام في غرفة هيفاء، فتقف تتأمل رسمة كوب لم تكتمل، وهناك كتاب أُغلق مقلوبًا، ومجموعة أقلام رصت بعناية، أرفف عليها اكسسوارت ناعمة تبدو عليها لمسات أنثى أنيقة، تنفض الغبار عنها ثمّ تخرج لتتفقد حديقتها التي نسقتها هيفاء ورتبت تفاصيلها، فهذه شجيرة ورد، وتلك ليمونة شابها شيئا من الذبول، أتراها تفتقد هيفاء فاصفرت أوراقها وذبلت؟! – هنا طائر كان يصدح بأعذب الألحان فتجيبه هيفاء بالصفير – وهنا حشائش استطالت لم تجد من يجزّها .. وذات أصيل خرجت أم هيفاء للحديقة الصغيرة تنفث أنفاسًا وتسحب أخرى في تململٍ وضيق، تتلمّس الشجيرات، وتتمتم بدعوات أن تعود هيفاء.. كان في عقلها الباطن هاجسًا يطرقه بإلحاح لا تعلم نوعه ولا مُبتدأه وتخشى منتهاه، زاد توترها فانعكس ذلك على حركتها جيئةً وذهابا، حتى استقرّ بها المقام أمام شجرة الليمون، وجثت على الأرض تتحسس ساق الشجرة بيدٍ مرتعشة ولمحت زهرة بيضاء صغيرة للتو أطلقت بَتلاتها تستقبل الحياة، أطالت النّظر إليها بحب، وحدثتها بصوت تخنقه العبرة، ستعود هيفاء بإذن الله لتراكِ، ونهضت عائدة لتستعد لموعد زيارة هيفاء . – ما إن أقبل عادل ووالدته على غرفة العناية المركزة إلا وتستقبلهم الممرضة بوجه بشوش وابتسامة لطيفة وتبادرهم بعربتها المكسرة ( ماما هيفاء اليوم كويس) كان وقع العبارة الأم مفاجئا وكبيرا – كويس؟؟ الحمدلله ولم تتركها لتكمل عبارتها واندفعت نحو الغرفة إلا أن الممرضة أسرعت واعترضتها وهي تمسك بها – انتظري الدكتور موجود بالداخل – حاول عادل أن يدخل إلا أن الممرضة حالت دونه وبقى ووالدته يراقبان الدكتور ومعه أحد الممرضات يكمل فحص هيفاء، وبعد مُضي قليلا من الوقت خرج لهم ووجهه متهلّل بالبشر – مرحبا دكتور كيف حالها الآن؟! – سأله عادل – اجابه : الحمدلله هيفاء تخطت المرحلة الحرجة ولكنها لازلت في حاجة إلى عناية طبية – وقاطعته والدتها هل يمكنني الدخول إليها؟! – لا ليس الآن الأفضل أن تؤجلين ذلك إلى الغد – ولكن يا دكتور .. فقاطعها وقد رفع يده في علامة للرفض – رؤيتها لكم قد يؤثر عليها دعوها للغد وبإذن الله سترونها في أحسن حال، وألقى عليهما التحية وغادر.. – اقتربت الأم حتى ألصقت وجهها بزجاج النافذة تشاهد هيفاء وهي تُتمتم بالحمد والشكر، ودموعها تتساقط فرحا وخوفا ووقف عادل ممسكا بكتفي والدته ويُؤمّن على دعائها – وعادا للمنزل – صباح اليوم كان مختلفا جدا تشعر وكأن البيت يستعد لاستقبال العيد، رغم عدم وجود مظاهر تدلّ على ذلك ولكن القلوب حين تفرح تتجمّل لها الدنيا بلا أدوات زينة – شجرة الليمون هي الأخرى تزينت بزهور بيضاء صغيرة، تنشر عبيرها في كل الأرجاء وقفت أمامها والدة هيفاء تتحسس براعمها الغضّة وتوشوشها بتمتمات أقرب للهمس – هيفاء ستعود لكِ قريبا – وتمضي بهم الأيام حتى كان يوم عودة هيفاء بعد تعافيها، تدخل باب المنزل ووالدتها تكاد تحملها، وأضلاع صدرها تكاد ترقص فرحا على وقع نبضات قلبها السعيد، عادت لحضن الأم واحتواء الأخ وزهور الليمون وترتيب الكتب – عادت لتشاطر أمها وشقيقها رحلة الحياة الجميلة فعائلتها هي الملاذ بعد الله .