كلما صدر كتاب عن جدة التاريخية ظننته الأخير فالزوايا الخفية رُصدت، والحكايات الحميمة والإنسانية على كل لسان حتى المهن والزخارف على الأبواب والنوافذ أفرد لها البعض فصولاً قرأت الجمال بلغة مشغولة بالانبهار النادر، وتغنى الشعراء بإطلالتها البحرية وأقمارها الحيية فغدت رواية ذات لغة خاصة وعمق دلالي يصعب القبض عليه أو ادعاء تأويله. كتب المؤرخون القدماء والرحالة الغربيون كثيراً عن فرادتها وأسرارها، وانتهى المطاف في العصر الحديث على يد عدد من أبنائها يكتبون حياتهم ورائحة حضن أرضهم الرؤوم «جدة»، قاد المجموعة الأستاذ الراحل عبد القدوس الأنصاري وتبعه آخرون مثل حسن عبد الحي قزاز، محمد سعيد فارسي، محمد صادق دياب، عدنان اليافي، وهيب كابلي، خالد باطرفي، أحمد باديب، عبد العزيز أبو زيد. هذه الأعمال ثرية ترصد تفاصيل لا يقدمها أو يختزلها إلا أبناء مدينة تشربت عروقهم حبها واتصلت أقلامهم بحدائق سردها الاستثنائي، ولعل من أهم الأعمال في هذا السياق كتاب «جدة داخل السور» الذي سجل فيه الراحل محمد درويش رقّام وصفاً ورسماً وتوثيقاً لجدة قبل ثمانية عقود تقريباً إذ كانت محدودة داخل بواباتها الشاهقة لكنها منفتحة، عبر مينائها العالمي، على كل بقاع الدنيا وأعراقها ومعارفها فتشكّل فيها مجتمع نادر بثقافة وفنون وقيم متسامحة وأصيلة في آن. كان الرقّام مصدراً حياً يمشي على قدمين يلجأ إليه الإعلاميون والمؤرخون وأبناء جدة لمعرفة ما استتر من صفحاتها وما اختلفوا عليه من أمكنة، أو علاقات أسرية، أو أحداث عاصرها قبل وبعد دخول الملك عبد العزيز جدة واحتفاء أهلها به. رحل الرقّام قبل أشهر وهو يضع اللمسات الأخيرة على كتابه الثاني «جدة.. حكايات من الزمن الجميل» وقد طُبع بعد وفاته فأصبح جزءاً من مهرجان المنطقة التاريخية والمكتبة التي يقودها المجتمع المدني لجمع المصادر الثقافية والفنية المعنية بتاريخ جدة وأهلها ووجوهها الحضارية؛ وهذا سيمنح المهرجان السنوي طعماً جديداً عوضاً عن الصراخ و»التهريج الدعائي» إذ بدأ الاهتمام يتجه صوب الفنون وقراءة التراث والاحتفاء بمصادره حتى لا تطغى النزعات التسويقية التي اتخذها المهرجان مسلكاً في نسخه السابقة.. إنشاء المكتبة وأركان الفنون التشكيلية والحِرف القديمة والدعوة إلى رعاية وتسجيل التراث غير المادي سيجعل للاحتفالات السنوية رسالة تؤديها وعمقاً يحقق الأهداف الأسمى والأبقى. الكتاب الجديد قدمته ذاكرة شمولية محايدة لم يتمتع بها أحد غير الرقّام، وفيه طاف الحارات العتيقة يصف أزقتها وبيوتها، ويسرد أسماء ساكنيها وعلاقاتهم الاجتماعية وقيمهم وتقاليدهم والأعراف التي تأسس عليها نسيج مجتمع تدعمه مقومات المدن الساحلية المتصلة بكل بقاع الدنيا تجاريا وإنسانياً وقد بنى ذلك مدينة ذات طراز خاص. ولم ينس الرقام المواقف الطريفة والصادمة أحياناً، واهتم برسم زوايا الوجوه والنفوس التي تركت بصماتها على حياة الآخرين.. جاء كل ذلك في سياق سردي ممتع، ولغة سينمائية متعددة اللقطات والزوايا؛ وهو بذلك يشكل نواة يعتد بها لأعمال مرئية يمكن إنتاجها عن هذه المدينة بعد تقصير بعض الفنون عن الوفاء بما تستحقه والعجز عن استنطاقه كما يجب. جدة التاريخية التي سجلتها اليونسكو قبل سنوات موقعاً تاريخياً تحتاج اليوم منظومة من الأعمال التوثيقية تعتمد الأرشفة الدقيقة والعرض الحديث مع الاستفادة من تقنيات العصر والبرمجيات الخاصة وهذا الكتاب وما صدر قبله يشكلون مادة عميقة وموثوقة، ولا أظن إدارة المهرجان التجاري السنوي قادرة على فعل ذلك فهي لا تعي رسالته وأثره الممتد، وعلى الهيئة العليا للسياحة والتراث والقطاعات الثقافية أن تلتفت إلى أدوارها المهملة والمنسية أو تدعم القطاع الخاص لتولي هذه الملفات.